هل بدأ العالم بالتململ من إسرائيل
كلما استمرت المأساة الفلسطينية بشكل أكبر وأفظع، كلما تململ العالم من الصهيونية وبدأ بالتحرك للتحرر منها ومن محرقتها التي أحرقت بها فلسطين وشعبها البريء.
لطالما استخدمت إسرائيل مأساة الهولوكوست كمغناطيس جاذب للتعاطف معها عالميا، وتعاملت معه كمخزون إستراتيجي واحتياطي تستفيد منه وقت الأزمات الكبيرة، أي عند توجيه أصابع الاتهام إليها في حال قيامها بمجزرة ما ضد الفلسطينيين، وتبين أنها طريقة ناجعة ومجرّبة ومضمونة النتائج. فالنقيض لعدم الانحياز لإسرائيل والصمت الإجباري عن محرقتها في غزّة هو معاداة السّامية والإعجاب بالنّازية وعدم الاعتراف بحقوق اليهود كقومية وليس كديانة سماوية ووو.. إلخ من التهم مسبقة الصنع والجاهزة للاستخدام في كل الأوقات العصيبة عليها.
ولنا في هذه الحالة الكثير من تصريحات وتصرفات المسؤولين الإسرائيليين، وخير دلالة على ذلك، عندما وضع السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتّحدة جلعاد إردان خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي يوم الاثنين 30 أكتوبر/تشرين الأول من العام الفائت، نجمة داوود الصفراء على صدره لاستحضار “ممارسات ألمانيا النازية بحق اليهود”، وذلك احتجاجا على عدم إدانة المجلس “الفظائع” التي ارتكبتها حركة حماس حسب أقواله.
ولكن حماس ليست ألمانية وليست نازية كما هو معروف، هي تمثل اليمين الفلسطيني الإسلامي الذي يرى أن النهج الوحيد لتحرير فلسطين هو الكفاح المسلح، ومن الواضح جدا أن حركة المقاومة الإسلامية حماس التي سقطت فلسطين سهوا أو عمدا من اسمها، ستضطر مكرهة إلى تغيير نهجها وأسلوبها وطريقة إدارتها لقطاع غزة وستتنازل عن الكثير سياسيا لصالح حركة فتح، فمن المعروف سياسيا أن “حماس تزرع وفتح تحصد”. وبالتالي فإن حركة حماس أظهرت وتظهر وستظهر الكثير من المرونة السياسية منذ هجوم “طوفان الأقصى” خارجيا، وفي المقابل لم ولن يظهر اليمين الإسرائيلي أي مرونة سياسية، لا داخليا ولا خارجيا، فهو لا يزال يغترف من مخزونه الإستراتيجي الموسوم بمعاداة السّامية وتجريم إنكار الهولوكوست، وهناك ما يؤشر على أن هذا المخزون بدأ في التناقص والتآكل والتناقض، وخاصة عندما يبرر المجرم جريمته بتعرض أجداده للظلم قبل عدة عقود.
تقدم الدعم السياسي والدبلوماسي للضحية الفلسطينية كثيرا في القارتين اللاتينية والأفريقية، فدول أميركا اللاتينية هي من بادرت بسحب سفرائها لدى إسرائيل أوّلا نيكاراغوا وتشيلي، ومنذ عدة أيام خلت، قامت نيكاراغوا بتقديم شكوى ضد ألمانيا لدعمها المالي والعسكري لإسرائيل أثناء عدوانها الحالي على قطاع غزّة، ولا يفوتنا توبيخ الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا لإسرائيل علنا ورفعه للعلم الفلسطيني غير مرة. أما الدول الأفريقية، فتقدم جنوب أفريقيا بشكواها ضد إسرائيل لمحكمة العدل الدولية، وطردها بشكل نهائي من الاتحاد الأفريقي، بعدما كانت حصلت على صفة عضو مراقب هو أفضل ما يمثل هذا التقدم وبالتالي يمثل أيضا التراجع السياسي والدبلوماسي لإسرائيل في تلكما القارتين.
ولو تطرقنا إلى أوروبا وأميركا، فالمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمنددة بالمحرقة في قطاع غزّة، تجوب شوارع العواصم وكبرى المدن، وهناك سجال حاد يدور داخل أروقة الاتحاد الأوروبي نفسه، بعدما قام جوزيب بوريل بتوجيه انتقادات لاذعة لرئيسة المفوضية الأوروبية، في حواره الأخير مع جريدة “الباييس”، متهما إياها بالانحياز التام لإسرائيل، وعرقلتها لأي محاولة اعتراف جماعي بالدولة الفلسطينية وتهديد مصالح الاتحاد الأوروبي في العالم. أمّا الولايات المتحدة التي تسقط على رؤوس الفلسطينيين صواريخها ومساعداتها الإنسانية بمفارقة غريبة، فهي في أسوأ حالاتها السياسية بعد حربها في العراق، وهذا أمر لا يحتاج إلى استنتاج. ولا يفوتنا في هذا المقام موقف الدول الإسلامية الداعمة للضحية الفلسطينية كماليزيا وإندونيسيا وإيران وتركيا.
إن مشهد المرأة الفلسطينية الغزاوية وهي تبكي حين حصلت على رغيف حيث مر شهران عليها لم تأكل الخبز، وأكل الفلسطينيين للعشب البري وأوراق الشجر حقيقة وليس مجازا، ومشاهد أقسى كموت الأطفال من الجوع وسوء التغذية، يحفر أخاديد على صخرة الإنسانية الصماء ويدق الخزان حسب تعبير الشهيد غسان كنفاني.
كلما استمرت المأساة الفلسطينية بشكل أكبر وأفظع، كلما تململ العالم من الصهيونية وبدأ بالتحرك للتحرر منها ومن محرقتها التي أحرقت بها فلسطين وشعبها البريء.