كان ينظر إلى قمة “حلف شمال الأطلسي” “ناتو” في الذكرى الـ75 لتأسيس المنظمة، على أنها محطة اختبار حاسمة لمدى ملاءمة الرئيس جو بايدن للمنصب الأول في الولايات المتحدة، خصوصاً بعد المناظرة التلفزيونية الكارثية التي خاضها الشهر الماضي.
ولم يكن التركيز منصباً كثيراً على الاجتماع الذي استمر يومين ونصف اليوم، الذي كان من المتوقع أن يسير بسلاسة بسبب التخطيط الدقيق من جانب الخبراء، بل كانت الأنظار كلها متجهة نحو المؤتمر الصحافي المنفرد الذي سيعقده بعد ذلك الرئيس الأميركي لمدة ساعة، مشكلاً المناسبة الأولى منذ المناظرة المصيرية، التي تعين على بايدن أن يتعامل خلالها مع أسئلة متواصلة من الصحافيين وتقديم إجابات مرتجلة عليها.
وكما اتضح، فقد شعر أولئك الذين حثوا الرئيس بايدن على التخلي عن محاولات إعادة انتخابه، بأنهم كانوا على حق، حتى قبل أن يحاول جاهداً الظهور كرئيس على المنصة في مواجهة وسائل الإعلام العالمية. فقبل بضع ساعات فقط، ارتكب خطأ مثيراً للذهول عندما خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بحضوره، على أنه “الرئيس بوتين”، ولم يصحح كلامه إلا بعد ردود فعل فورية من جانب الصحافيين المصدومين.
قد لا يكون نسيان الأسماء خطيئة كبرى، ولن يؤدي في حد ذاته إلى حرمان شخص ما من أن يتبوأ أعلى منصب في العالم. لكن الخلط بين اسمي الحليف الرئيس والخصم الرئيس، خصوصاً في حضور الأول وأمام كاميرات العالم، يعد في الواقع هفوة كبيرة. ربما لا يكشف هذا الخطأ عن التأثير الشائع للتقدم في السن فحسب، بل يشير أيضاً إلى هيمنة الرئيس الروسي على ذهن الرئيس الأميركي وأفكاره خلال هذه المرحلة من الحرب في أوكرانيا. ولم يكن مستغرباً أن يعمد الرئيس زيلينسكي، المعروف بنفاد صبره، إلى إلغاء مؤتمره الصحافي الذي كان مخططاً له، بمعزل عما إذا كان قراره هذا حكيماً أم لا.
زلة “الرئيس بوتين” عنت أنه وعلى رغم تخطي الرئيس بايدن لمحنة التعامل مع المؤتمر الصحافي الذي عقده، إلا أن ثمة شعوراً بأنه قد فشل بالفعل. ولولا تلك الحادثة العابرة، لكان من الممكن في أحسن الأحوال أن يخرج بايدن من المؤتمر الصحافي مصلحاً بعض الأضرار الناجمة عن مناظرته مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ولربما كان في أسوأ الأحوال، خرج سالماً نسبياً. فقد تمكن من الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه وإعطاء إجابات مفصلة وموسعة، وناقش المخاوف في شأن سنه وكفاءته، وإن كان ذلك بطريقة عفوية للغاية أو غير جدية بما فيه الكفاية.
قد يبدو خطابه وسلوكه أبطأ مقارنة بشخص أصغر سناً أو حتى بالمقارنة مع منافسه “الجمهوري” على الرئاسة الذي يبلغ من العمر 78 سنة. لكن يمكن القول إن بايدن لم يكن متحدثاً معروفاً قط بفصاحته أو بردوده السريعة. ويمكن النظر إلى الثبات والتفكير المتأني على أنهما من الصفات المرغوبة في القائد السياسي، وقد تمكن في الأقل من تخفيف بعض المخاوف وتبديد الشكوك في ما يتعلق بمدى قدراته من الناحية العقلية.
الزلة التي ارتكبها بايدن أمام عدسات الكاميرات، والتي طغت منذ ذلك الحين على الأخبار الواردة من واشنطن، جعلت مثل هذا الدفاع عنه مستحيلاً. قد يزعم أنصاره أن رد الفعل هذا غير عادل وأنه قد بولغ فيه، وأنه ارتكب هفوة عابرة، وأن مثل هذه الزلات العابرة يتم تضخيمها بشكل مبالغ فيه ويمكن أن تحدث لأي شخص. لكن هذا الواقع يظل قائماً.
إن الانطباع الذي يتركه القائد لا يقل أهمية عن أفعاله. ويتعين على هؤلاء الذين يظهرون في دائرة الضوء، جنباً إلى جنب مع العاملين لديهم، أن يضمنوا المواءمة بين هذين الجانبين. في تلك اللحظة القصيرة، لم يخاطر بايدن بتعزيز الدعوات المطالبة بإيجاد مرشح “ديمقراطي” آخر لخوض انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) فحسب، بل خاطر أيضاً بإثارة تساؤلات عم مدى قدرته على الاستمرار في الخدمة في الأشهر الستة المتبقية حتى يوم التنصيب.
ويكمن التحدي هذه المرة في التداعيات المحتملة التي تمتد إلى ما وراء حدود الولايات المتحدة. فقد تبين في البداية أن المناظرة التلفزيونية التي آلت إلى تكثيف النداءات الموجهة إلى بايدن من جانب زملاء “ديمقراطيين” له بضرورة التنحي لمصلحة مرشح آخر من الحزب، حتى عندما بدا أنها عززت تصميمه على المضي في ترشحه، كانت مصدر قلق داخلي. وبشكل أكثر تحديداً، طغت على المناقشات في أروقة الكونغرس، وأثارت اهتمام النقاد والمعلقين في وسائل الإعلام الوطنية، من دون أن تحفز خطاباً وطنياً أو دولياً أوسع، ناهيك بالعواقب الدبلوماسية المباشرة والفورية المترتبة عن ذلك.
لكن هذا تغير الآن. فقد كانت قمة “حلف شمال الأطلسي” فرصة لجو بايدن لتقديم نفسه رئيساً قوياً يستحق الثقة مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، وربما سعيه إلى ولاية أخرى. لكن كم من قادة الـ “ناتو” الـ32، إلى جانب زعماء أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية الذين كانوا حاضرين، قد غادروا بهذا الانطباع بالفعل؟ من الواضح أن الرئيس الأوكراني شعر بالإهانة، لكن نظراً إلى اعتماد بلاده على الدعم الأميركي، لم يكن في وضع يسمح له بالرد بقوة.
مع ذلك، من المرجح أن ما حدث أثار أو عزز الشكوك بين القادة الآخرين في شأن مدى موثوقية الشخص الذي يجلس في البيت الأبيض في الوقت الراهن، والأهم من ذلك، في شأن رغبته في الترشح لولاية أخرى مدتها أربعة أعوام. وقبل زلة بايدن مع زيلينسكي، نقل عدد من القادة الزائرين انطباعات مطمئنة عن اجتماعاتهم المباشرة مع الرئيس الأميركي، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي حصل على فرصة لعقد اجتماع في المكتب البيضاوي في وقت قياسي، وهو ما يرغب فيه كل رئيس وزراء جديد في المملكة المتحدة.
إلا أنه قد يكون من المفيد أن نلاحظ كيف ستترجم انطباعات القادة لزائرين عن تلك الأيام التي أمضوها في العاصمة الأميركية، بعد عودتهم إلى ديارهم. فبعد تواصلهم مع مركز النفوذ الغربي، ما هي الانطباعات التي تشكلت لديهم حقاً؟ لقد واجهوا رجلاً مسناً، بدا في الغالب كفؤاً ومتماسكاً، لكنه كان أيضاً بطيئاً بصورة واضحة وعرضة للخلط بين الأسماء في اللحظات الحرجة. والواقع أنه خلال المؤتمر الصحافي كان على درجة عالية من الأهمية، أشار من طريق الخطأ إلى نائبته كامالا هاريس على أنها “نائبة الرئيس ترمب”.
اختبر العالم من قبل العواقب التي يخلفها الزعماء في شيخوختهم: كالرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت في يالطا، ورئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل الذي أصيب بجلطة دماغية أثناء فترة ولايته الثانية، إضافة إلى سلسلة من الزعماء السوفيات المرضى في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ومن حسن الحظ أن الأنظمة الديمقراطية لديها في الأقل، مؤسسات وضمانات قادرة، إلى حد ما، على حماية هؤلاء الزعماء من عيوبهم الخاصة وحماية بلدانهم من الأخطاء الكارثية المحتملة.
لا يوجد أي مبرر للاستمرار في مثل هذا الوضع. فاحتمال بقاء زعيم في السلطة الرئاسية لأربعة أعوام أخرى، في ظل قدرات صحية ومعرفية هي أقل من المستوى الأمثل، إنما يشكل خطراً على البلاد كما على حلفائها. وتتزايد حدة هذا الخطر عندما تكون لدى تلك الدولة القدرة على إحداث دمار هائل بكبسة زر، وفي أي لحظة، خصوصاً بالمقارنة مع قادة منافسين أو خصوم دوليين محتملين مثل الرئيس الصيني شي جينبينغ، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وحتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذين، على رغم الإشاعات المتعلقة بصحتهم في الماضي، فإنهم لم يظهروا نقاط ضعف مماثلة.
وبغض النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة قوة عالمية هي في حال تراجع أم لا، إلا أنه في المستقبل المنظور، يظل الرئيس الأميركي شخصية عالمية مهمة. من هنا، لا يكفي أن يكون قادراً على أداء واجباته فحسب، بل يجب أيضاً أن ينظر إليه على أنه قادر على تحقيق ذلك. وفي واشنطن هذا الأسبوع، على رغم الجهود الجبارة التي بذلها جو بايدن، فإنه لم ينجح في تحقيق هذا التصور واجتياز هذا الاختبار الحاسم.