هـل نسيَ العالم ثورة الـسودانيين؟
تجد ثورة السودانيين التي أذهلت العالم أجمع ما يشبه الإهمال من عناصرها الداخلية قبل الخارجية، فجاء الطامعون لسرقة ثروات البلاد.
حين ثار الشعب السوداني على الحكومة العسكرية التي حكمت السودان ست سنوات (1958 – 1964)، ونجح في إسقاطها، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن قبل أن يشهد العالم أجمع، أوّل هبة شعبية تُسقط حكماً شمولياً جاء عبر انقلاب عسكري. كانت المشاهد في تلك المنطقة حافلة بأنظمة شمولية قابضة، جاء أكثرها عبر انقلابات عسكرية، أو أنظمة أخرى عليها ملوك وأمراء وشيوخ، لا تقلّ شمولية عن التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية.
ولأن وسائل التواصل والاتصالات لم تكن حاضرة بالوتيرة ذاتها التي عليها الحال الآن، لم تلق أحداث هبّة السودانيين ووقائعها الضوء الإعلامي اللازم الذي يُلفت إليها أنظار العالم. لم يلفت أنظار السودانيين الثائرين غير صوت واحد، حمل رد فعل لم يكن إيجابيا بالكامل، صوت الإعلام المصري. لربما القرب الجغرافي والعلاقات الراسخة بين البلدين هما ما فسّرا اهتمام مصر، والتي كان يقود نظامها الشمولي زعيم عظيم الشأن، هو جمال عبد الناصر. ولأن الإعلام عموما لم تكن له السطوة المؤثرة، فقد اعتمد نظام عبد الناصر الصحيفة الرسمية (الأهرام) ورئيس تحريرها الراحل محمد حسنين هيكل، لتكون صوت النظام الحاكم، وتكون المقالة الافتتاحية التي يكتبها هيكل بمثابة الموقف الرسمي لمصر.
القهر والانشعال بالصراعات والحروب مدخـل شرعي للتحكّم عن بعـد في أقـــدار (ومصائر) شعوب تتنفس وترى وتسمع، لكنها مغلوبة على أمورها
حين حملت افتتاحية “الأهرام” مقالة هيكل الافتتاحية، بعد نجاح الثورة السودانية في إسقاط النظام العسكري الشمولي، عنوانا “ماذا بعد في السودان؟”، فهم السودانيون أن المقال عكس رد فعل سلبيا على ثورتهم، وكأن شعب السودان انقلب على حكومة تتعاطف معها القاهرة، فخرجوا على الفور في تظاهرات كبيرة حاصرت السفارة المصرية في الخرطوم، ورموا مبانيها بالحجارة، وأسمعوها هتافات مناوئة لمصر ولقيادتها.
ثورة أكتوبر 1964 في السودان هي المرّة الأولى التي نجح فيها حراك شعبي في إسقاط حكومة عسكرية في منطقةٍ محتشدة بحكوماتٍ شمولية جاءت عبر انقلابات عسكريةً. إنها موسم “الربيع العربي” الأول الذي لم يتكرّر إلا بعد قرابة نصف قرنٍ من ثورة السودانيين.
تعكس تلك الظاهرة أمرا واضحاً، خلاصته أن الأنظمة الشمولية التي لا تعير الديمقراطية أو احترام إرادة الشعوب نظراً يذكر، هي التي سادت خلال تلكم السنوات، وأنّ ثورة السودانيين كانت تسير في الاتجاه المعاكس تماما. أما في انتفاضة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، فهل بدت، في عيون ذلك الإقليم نفسه، سائرة في الاتجاه المعاكس نفسه الذي سارت عليه ثورة أكتوبر 1964؟
الإجابة عن هذا السؤال فيما يرى، وبلا تردّد: نعـم. … تنظُر حولك في وسط ما يسمى إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجوانبه وأطرافه، سترى إدمان معظمها على التعاطي والتماهي مع أنظمة شمولية أو شبه شمولية، لا تنظر كثير نظر جادٍّ إلى أقدار شعوبها إلا بعض أفعالٍ تبدو كذرٍّ للرماد في عيون تلك الشعوب، أو بعضها سرابٌ يحسبه الظمآن ماء.
ضعف تلك الجدية في تهيئة شراكة لتلك الشعوب في تســـيير شؤون بلدانها شكلت مغرياتٍ للطامعيـن في التحكّـم في أقدار المنطقة وامتـلاك مقــدّراتـها وقدراتها، بما يتجاوز السيطرة السياسية والاقتصادية، ليصل إلى المقـدّرات الفكـرية والثقافية لتلك الشعوب، فيكون القهر والانشعال بالصراعات والحروب مدخـلاً شرعياً للتحكّم عن بعـد في أقدار (ومصائر) شعوب تتنفس وترى وتسمع، لكنها مغلوبة على أمورها. ذلك ما ترصُده العين الفاحصة لتطور أوضاع ذلك الإقليم في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وفي خلال العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة.
حربُ أغبياءٍ يتبارون في تدمير مقوّمات بلادهم، سكانا وموارد وثروات، ويفتحون صفحة دامية لممارسات إبادة جماعية عنصرية وإثنية
وإني أعود إلى الثورة التي أسقطت نظام الإسلامويين في السودان، هذا البلد الثري بالثروات الزراعية والواعـد لملء أفواه شعوب القارة والإقليم بالغذاء، والغني بالموارد النفطية والمعدنية في باطن أرضه بما يكفي الإقليم ويزيد، فإلى ماذا انتهى بها الأمر. للمرّة الثانية، تجد ثورة السودانيين التي أذهلت العالم أجمع ما يشبه الإهمال من عناصرها الداخلية قبل الخارجية، فجاء الطامعون لسرقة ثروات البلاد وتداعوا تداعي الأكلة على قصعات الموائد الشهية، أو تناهش الصقور على صغار الطير.
تكرّر لثورة السودانيين في عام 2018 ما وقع لثورتهم الأولى عام 1964 وقبل أكثر من 60 عاماً. من الطبيعي أن لا تتماهى أنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، جلّها ينظر شزراً إلى طلبات الشعوب حقّها في إدارة شؤونها وأحوالها، فبقي السودان مثلاً كطريدٍ سار في اتجاهٍ معاكس لن يظفر فيه بتعاطف يذكر. لم يقف الأمر عند حدود الإهمال والتجاهل، بل كثرت أصابع الطامعين من أقرب الأقربين ومن أبعدهم. تجاسر بعضُهم يزيد أوار الخلافات، ليس فقط بالتشجيع والتحريض، بل أيضاً بتزويد أطراف الصراعات الناشبة في السودان بالأســـلحة والذخائر والمُسيّرات.
قال أطـراف تلـك الحرب عنها، ويا للعجب، إنها عبثـية. كــلا، إنـها حــربُ أغبياءٍ يتبارون في تدمير مقوّمات بلادهم، سكانا وموارد وثروات، ويفتحون صفحة دامية لممارسات إبادة جماعية عنصرية وإثنـيـة، تقـتل وتذبـح على الهــوية واللـون واللســان. أكثر من نصف السـكان نازحون بلا موارد، داخل البــلاد أو خارجـها، أو هـم لاجـئــون يكاد يلفـظهـم من ضيقٍ اللائذون بهم في بعض بلدان الجوار.
ليس ثمة مفاضلة بين شعب وشعب، ولا بين قتل وقتل، ولا بين إهلاك وإهـلاك، إنما للبشرية ضمير واحـد لا يستيقظ هنا أو ينام هناك
الذي جرى ويجري في واحــدٍ من أكبر (وأغنى) بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصحرائها، هو السودان، لا تقلّ كارثيته عمّا وقع شـبيهاً له في مناطق أخرى من أنحــاء العـالم، سواءً في أوكرانيا أو في قطاع غزّة في فلسطين المحتلة. إذ المتوقّع أن يلتفـت المجتمع الـدولي إلى المآســي والكوارث، وبالقدر ذاته من الاســـتجابة لوقــف تصـعـيد الحروب وضحاياها من قتلى ومن جرحى، ومن إهلاك للزرع والضرع ولإفـناء للموارد وللثروات.
ليس ثمة مفاضلة بين شعب وشعب، ولا بين قتل وقتل، ولا بين إهلاك وإهـلاك، إنما للبشرية ضمير واحـد لا يستيقظ هنا أو ينام هناك، ومـا نطــق الفرنســيون إلّا عــن حـقٍّ فـي توصيفهم حرب السودان إنها الحرب المنسية، وليس في ذلك ما قد يغضب السودانيين، ولا فيه ما يدين طرفاً من الإطراف، بل هو تذكير بالالتفات إلى كارثة إنسـانية على المجتمع الـدولي أن ينبري لمعالجتها بما في مواثيقه وتعهـداته ما يعزّز صحوة الضمير الإنساني لإيقـاف نزيف الدّم في كلّ مكان: في أوكرانيا وفي غـزّة أو في الســودان، بل في أيّ مكان تنتهـك فيه حقـوق البشر، أطفالاً ونساءً ورجالاً، وتهدر استحقاقاتهم في الحياة.