هجوم أنقرة… حساسية التوقيت
قبل أيّام من الاحتفال السنوي بذكرى تأسيس الجمهورية التركية (29 أكتوبر/ تشرين الأول)، وإبّان مشاركة الرئيس رجب طيّب أردوغان في قمّة مجموعة بريكس في قازان الروسية، كانت وسائل الإعلام تنقل خبر عملية إرهابية استهدفت موقعاً تابعاً لشركة توساش لصناعة الطائرات المُسيَّرة في العاصمة أنقرة. العملية، التي ثبت ضلوع حزب العمال الكردستاني فيها، لا تزال تشغل الرأي العام، فيما تستمرّ الداخلية التركية في تنفيذ حملة اعتقالات ضدّ أفراد منتمين للحزب، المعروف بعدم تورّعه عن اللجوء إلى العنف أو الإرهاب.
صحيحٌ أن الأيدي المباشرة كانت أيدي الحزب، إلا أن هذه العملية أكّدت (كما غيرها) أن هذه المجموعات ما هي إلا مُجرَّد ذراع يستخدمها أعداء تركيا، الذين لم تتوقّف محاولاتهم لإفشال منظومة الصناعات الدفاعية أو لمنع أنقرة من الحصول على التقنيات الكافية لصنع أسلحة رادعة. السلاح والتخطيط والدعم اللوجستي… يشير ذلك كلّه إلى تورّط جهاز مخابرات دولي ومشاركته في المتابعة والتخطيط والتنفيذ. من هنا نفهم تصريح أردوغان الذي قال فيه إنهم سيكثّفون جهودهم وسينتجون مزيداً من الصناعات الدفاعية “نكاية بالخونة”.
المنطق الغربي، الذي يعتبر أن عمليات الكيان الصهيوني، التي امتدّت حتى إيران، مبرّرة، وكذلك تدخّلات الأميركيين والأوروبيين العسكرية شرقاً وغرباً، يستنكر استهداف تركيا معسكرات تجمّع الإرهابيين، الذين يهدّدون سلامة أرضها من داخل حدود سورية أو العراق. تعليقاً على هذا، وعلى تسلّل منفّذي الهجوم الإرهابي من سورية شرح الرئيس أردوغان موقف بلاده قائلاً: “نواصل العمل من أجل القضاء على الإرهاب من مصدره، وإن كان ذلك بسورية، فسنفعل ما تقتضيه الضرورة”. التنظيم المسلّح، المصنّف إرهابياً في تركيا وفي غيرها من الدول، يجد رعايةً ودعماً من أعداء تركيا. لوعيها بذلك، وبأهمّية التنسيق الإقليمي، كانت أنقرة تسعى خلال الفترة الماضية لتطبيع علاقتها مع جميع الأطراف، بما في ذلك الدول، التي اتّسمت علاقتها بها لسنوات مضت بكثير من التوتّر والعداء.
جاءت عملية أنقرة أيضاً بعد وقت قصير على إرسال الدولة التركية رسائلَ إيجابيةً، من أبرزها دعوة زعيم الحركة القومية، المتحالف مع حزب العدالة والتنمية، دولت بهجلي، إلى إيجاد حلّ لقضية حزب العمّال الكردستاني، مقترحاً الإفراج عن زعيمه عبد الله أوجلان في مقابل حلّ الحزب، والتعهّد بالتوقف عن مسلك العنف. قال: “ليخرج أوجلان من السجن وليتفضّل إلى مجلس الأمة التركي، وليتحدّث من على منبر البرلمان وليقُل ما يقوله”.
لقيت التصريحات اهتماماً واسعاً وترحيباً من أطراف كثيرة من بينها حزب الديمقراطية ومساواة الشعوب، الذي يُنظَر إليه ذراعاً سياسية لـ”العمّال الكردستاني”. ويعدّ بهجلي أحد أبرز الوجوه في النظام السياسي التركي ومن المقرّبين للرئيس أردوغان. بذلك يمكن اعتبار كلمات الرجل، لا مُجرَّد رأي شخصي، بقدر ما هي مبادرة رسمية، خاصّة أن الرئيس كان دعا قبل حديث بهجلي إلى ضرورة العمل على توحيد الصفّ الداخلي التركي لمواجهة الأخطار الخارجية المُحدِقة، وهي أخطار معروفة تتنوع من محاولة إضعاف تركيا، إلى مساعي تقسيمها. مبادرة بهجلي، وإن لم تتكشّف تفاصيلها بعد، إلّا أنها كانت تعبّر على الأقل عن حسن النيات، وعن استعداد أنقرة لطيّ صفحة الخلافات، ومنح الحزب فرصةً أخيرة.
إقرأ أيضا : الملامح الرئيسية لخطة ترامب للسياسة الخارجية
ويقضي أوجلان محكوميته في سجن خاصّ في جزيرة إيمرالي محاطاً بحراسات خاصّة، هو من مواليد ولاية شانلي أورفا التركية 1948 لأبوين مسلمين سنّيين. درس الإعدادية والثانوية في أنقرة في مدارس شرعية داخلية وقرآنية، وكان معروفاً بمواظبته على الصلاة في جماعة، وبتحدّثه العربية مع إجادته الكردية والتركية. تغيّر ذلك كلّه بعد التحاق الشاب بكلية العلوم السياسة في جامعة أنقرة، إذ انتقل بشكل راديكالي من التديّن والمحافظة، إلى الشيوعية والإلحاد، قبل أن يؤسّس حزب العمّال الكردستاني بشكل رسمي في نهاية السبعينيّات، ومع رفاق كانوا في غالبيتهم من العلويين الأكراد. حزب أوجلان وجد دعماً في البداية من شاه إيران، الذي سهّل تمركز قوات الحزب في جبال قنديل شمال العراق، لكن دولاً مختلفة تناوبت على دعمه، فكان يمثّل لها الطريق الأقصر من أجل توجيه ضربات موجعة لتركيا من دون أن يوجّه أحد إليها أصابع الاتهام.
لم تكد أصواتٌ من عائلة أوجلان تنقل تلقّيه هذه المبادرة بشكل إيجابي، حتى فوجئ الجميع بهذه العملية، التي يبدو أنها هدفت لقطع الطريق على أيّ حلّ عقلاني ممكن، وجعل كلّ خطوة نحو التنازل صعبة. ربما يؤكّد ذلك أن أوجلان، على ما كان يحظى به من أهمية وتقدير في وسط مقاتلي وقيادات الحزب، تراجعت أهمّيته لمصلحة أصوات راديكالية لا تريد أيَّ حلٍّ، وتفضّل الاستمرار في حربها على الدولة. الأصوات الرافضة لأيّ تفاوض، التي لا يمكن أن يعلم أحد ما تريد تحقيقه بالضبط، يُتوقّع أن تجد دعماً وسنداً دولياً يشجّعانها على التمسّك بموقفها ذلك، إمّا بإعلان رفض الحوار جملةً، أو بوضع شروط تعجيزية يعلمون مسبقاً أن من المستحيل القبول بها، كشرط انفصال مناطق أو ولايات تركية. سوف تكون هذه الأصوات مفيدةً للمتربّصين الدوليين من أجل توظيفها ضمن مخطّط إنهاك تركيا، وإشغالها بمعارك داخلية، وتهديدات أمنية لا تنتهي، كما ستكون مفيدةً من أجل ممارسة ضغوط سياسية عليها. استخدام هذا النوع من المعارضة المسلّحة متكرّر في أكثر من بلد، ففي السودان ظلّت أسماء مُعارِضة، ومدعومة من جهات خارجية، ممسكةً بسلاحها، وبدعوتها لاستخدام منهج “الكفاح المسلّح” من أجل تغيير النظام عقوداً طويلةً، على الرغم من تغير النظام والحكومة أكثر من مرّة.