أججت بيانات تدل على أن ما يناهز 10800 مليونير غادروا المملكة المتحدة العام الماضي انتقادات لسياسة الضرائب التي تنتهجها حكومة حزب العمال.
هذا الرقم الذي ورد في تحديث لبيانات أعدتها شركة “نيو ورلد ويلث” (New World Wealth) في جوهانسبرغ لصالح شركة “هنلي أند بارتنرز” (Henley & Partners) لاستشارات الهجرة، قد يكون نذير سوء لأنه أعلى بنسبة 157% عن مستوى العام الماضي، كما يضع نزوح أصحاب الثروات من المملكة في المرتبة الثانية بعد الصين. مع كل ذلك، فإن ظاهر الأمر أكبر من دلالاته.
انتقادات لحزب العمال
كان بين المغادرين 78 شخصاً تفوق ثروات كل منهم 100 مليون دولار و13 مليارديراً، ما زاد حدة الاتهامات التي أطلقتها جوقة المنتقدين المعتادة بأن حكومة حزب العمال تدفع صُنَّاع الثروة إلى الهجرة. وقد عزوا ذلك إلى ميزانية أكتوبر التي قدمتها وزيرة المالية ريتشل ريفز، وتضمنت رفع ضريبة أرباح رأس المال ووسعت نطاق ضريبة الإرث وألغت “نظام غير المتوطنين”، الذي كان يوفر معاملة ضريبية تفضيلية للمقيمين الأجانب المؤقتين.
شملت قائمة النقاد جماعة الضغط المدافعة عن غير المقيمين المعروفة باسم “مستثمرون أجانب لأجل بريطانيا”، التي وصفت هذه الإجراءات بأنها “عمل كارثي يؤذي مصلحة الوطن”، بالإضافة إلى تشارلي مولينز، السباك الشهير الذي يبدو شعره كشعر رود ستيوارت.
ظهر مولينز، الذي باع شركته للسباكة “بيمليكو” (Pimlico) مقابل 178 مليون دولار في 2021، عبر وسائل إعلام ليتهم حزب العمال بأنه “لطالما ازدرى الأثرياء” وبأن من شأنه أن يقود البلاد نحو الإفلاس. كما أعلن رجل الأعمال، الذي انتقل إلى إسبانيا بعد الانتخابات العامة في يوليو، أنه يعتزم الترشح عن حزب الإصلاح الشعبوي الذي يطالب بخفض الضرائب ويقوده نايجل فاراج .
إقرأ أيضا : هل بإمكان بوتين وترامب عقد صفقة في ملف أوكرانيا ؟
الواقع ليس سيئاً بقدر ما يبدو
لكن عند النظر إلى الصورة الأوسع، سيتبين أن هذه الهجرة ليست ضخمة بقدر ما قد تبدو عليه. فبحسب “نيو وورلد ويلث”، كانت المملكة المتحدة تضم 602500 شخص من أصحاب الثروات الكبرى (أي بحسب تصنيفات المملكة المتحدة، من مالكي أصول قابلة للاستثمار قدرها لا يقل عن مليون دولار) بحلول نهاية 2023. لذا فإن 10800 منهم لا يتجاوز 2%.
تتابع شركة الاستعلام التي تتخذ في جنوب أفريقيا مقراً لها حركة أكثر من 150 ألف فرد استناداً إلى مصادر متاحة للعامة مثل “لينكد إن” من أجل التحقق من المدينة التي يتواجدون فيها. وأبلغني أندرو أمويلز، رئيس قسم البحوث لديها، أن دقة البيانات تبلغ 90%، وهذه تقديرات تميل لأن تكون متحفظة، لذا فإن عدد المغادرين قد يكون أعلى بقليل.
هذه ليست حجة بغرض الاستخفاف، إذ أن مغادرة الأثرياء لا تصب لمصلحة الآفاق الاقتصادية البريطانية ولا يُحتفى بها. وليس هنالك ما يدعو للفخر في التشابه بين مستوى مغادرة الأثرياء المملكة المتحدة مع الصين، التي أطلقت حملة تضييق على أرباح القطاع الخاص ومظاهر الثراء المفرطة، أو من روسيا التي يغادرها كثير من الأثرياء. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن الأرقام التقديرية التي نُقلت هذا الشهر هي تحديث لتقرير صدر في يونيو، أي قبل الانتخابات العامة. في ذلك الوقت، توقعت “نيو وورلد” أن تخسر المملكة المتحدة 9500 مليونير خلال 2024. لذا فإن العدد الأقصى الذي يمكن ربط مغادرته إلى ميزانية ريفز هو 1300 ثري فقط.
ليست الضرائب السبب الوحيد
كان إلغاء حكومة حزب العمال لنظام غير المتوطنين واستبداله بآخر يستند إلى الإقامة، (وهو أمر وعدت به الحكومة المحافظة أيضاً) أثار كثيراً من الجدل حول احتمالات تأثيره على هجرة الأثرياء. لكن هناك كثيراً من العوامل التي تسهم في هجرة الأثرياء أكثر من الضرائب.
تذكر “نيو وورلد ويلث” الضرائب بعد عدد من الأسباب الأخرى التي تفسر مغادرة أصحاب الثروات للمملكة المتحدة، مثل تدهور النظام الصحي وتزايد المخاوف الأمنية في المدن الكبرى مثل لندن، والهيمنة المتزايدة للولايات المتحدة وآسيا في مجال التقنية وتراجع أهمية بورصة لندن كمكان لجمع رأس المال.
إن المشكلة الأساسية التي تواجه الحكومة ليست ما إذا كان بعض المقيمين الأثرياء سيغادرون، لأن هذا الأمر لطالما كان حتمياً بقدر ما، بل هي أثر ذلك على الإيرادات الضريبية ربحاً أو خسارةً.
قدّر مكتب المسؤولية المالية المستقل أن إلغاء نظام “غير المتوطنين” سيسهم في تحصيل 12.7 مليار جنيه إسترليني حتى نهاية العام المالي 2029-2030، بينما قالت “أكسفورد إيكونوميكس” (Oxford Economics) في دراسة لصالح “مستثمرون أجانب لأجل بريطانيا” إنه قد يكلف الخزانة مليار جنيه إسترليني. ولك أن تصدق ما تشاء من ذلك، فالحقيقة هي أن لا أحد يعلم جازماً، وبيانات الضرائب التي ستصدر عن إدارة الإيرادات والجمارك الملكية هي ما يكشف الحقيقة في نهاية المطاف.
قد تطغى التحولات العالمية في أي حال على تأثير التعديلات الضريبية في المملكة المتحدة. إذ إن المملكة ستخسر 17% من أصحاب الملايين المقيمين فيها خلال الخمس سنوات حتى 2028، في أكبر انخفاض متوقع بين 36 دولة شملها تقرير الثروة العالمية من “يو بي إس” لعام 2024، أي انخفاض بمقدار أكثر من نصف مليون شخص (مع اعتماد توصيف أوسع لأصحاب الملايين يشمل أصولهم العقارية).
قال بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في إدارة الثروات العالمية لدى “يو بي إس”، إن هذا الرقم الذي يستند إلى نموذج من “برايس ووترهاوس كوبرز” (PwC ) ويعتمد على أبحاث النصف الأول من عام 2024، يجب اعتباره خروجاً عن المألوف. مع ذلك، واقع الحال أن عدد أصحاب الملايين في المملكة المتحدة لا يتناسب مع عدد سكانها، كما لديها أصحاب ملايين “رحل” أكثر من أي دولة أخرى، وهم قد يغادرون في الأوقات التي تشهد حركة نزوح أكبر في أوساط هذه الفئة. وربما يقوض صعود مفهوم القومية الاقتصادية جاذبية أسلوب الحياة المتنقل في أوساط الأثرياء.
الأجدى بمنتقدي ضرائب حزب العمال أن يحتفظوا ببعض ذخيرة انتقاداتهم، فقد تطرأ أمور أخرى كثيرة قريباً ليتسخطوا بشأنها.