أمريكا

هاريس عبرت الجسر… لكن الآتي أكثر وعورة

بغض النظر عمّا تمكّن ترامب أم لم يتمكّن من تحقيقه، كان التحدّي الأكبر أمام هاريس أن تستعيد زمام المبادرة منه، وأن تُسارع إلى استقطاب ذات الفئات التي قاطعت النُّخب التقليدية المتراخية العجوز في واشنطن، لتتوجّه هاريس بعمق حاسم لاستنهاضها

عشية مجيء الرئيس جو بايدن للسلطة، قال بوضوح إنه ينظر إلى نفسه جسراً يعبر عليه الحزب والبلاد للخلاص من ظاهرة دونالد ترامب وتداعياتها. وبعدما عبرت كامالا هاريس هذا الجسر، لتصبح مرشحة الحزب الديموقراطي، فإنها لم تتوقف قط عند برنامج بايدن، بل اختطت لنفسها طريقاً أكثر وعورة، “ولكل زمان، دولة، ونساء ورجال”.

بعد عقود من الركود السياسي، تغافلت فيه النخب في الحزبين عن التحول الاجتماعي الهائل الجاري في البلاد، وتجمّدت فيها السياسات التقليدية للحزبين، وتخلّت عن الاستجابة للقوى المجتمعية الصاعدة، لتصير أميركا حبلى بقوى التغيير، جاء ترامب راكباً غضب تلك القوى المستبعدة.

بغض النظر عمّا تمكّن ترامب أم لم يتمكّن من تحقيقه، كان التحدّي الأكبر أمام هاريس أن تستعيد زمام المبادرة منه، وأن تُسارع إلى استقطاب ذات الفئات التي قاطعت النُّخب التقليدية المتراخية العجوز في واشنطن، لتتوجّه هاريس بعمق حاسم لاستنهاضها.

إنها مهمّة هائلة! لكن من دونها ما كان لهاريس مجرد التفكير في مواجهة الموجة الترامبية.

بعد تسميتها من قبل الحزب، كان أول قرار سياسي تتخذه هو اختيار تيم والز نائباً لها. وقد أضاف تيم نكهة أميركية ظريفة إلى حملتها الانتخابية، ليس من حيث أصوله الاجتماعية المتواضعة وحاله الاقتصادية المحدودة وروحه الشعبية المرحة فحسب، بل لفت قرارها النظر إلى قدراتها القيادية، وطريقتها الفريدة وغير المتوقعة في اتخاذ القرارات.

لا شكّ في أن الزمن سيكون التحدّي الأكبر أمامها، حيث يترتب عليها تجديد عزم حملة انتخابية على شفا التداعي، وأن تضيف إليها مهمّات جديدة وتعيد نسج تحالفاتها وتجدّد خطابها.

أما التحدّي الثاني فكان إعادة صياغة برنامجها الاجتماعي. فبقدر ما تميّز الحزب الديموقراطي باتّساع قاعدته المجتمعية، بقدر ما عانى من تفاوت أجندات الكتل المكوّنة لهذه القاعدة، وبالتالي لطالما واجه صعوبة في جسر الهوّة بين مطالبها المبعثرة.

لكن من دون الدفع بهذه الأجندات وجسر الهوّة بينها لتنخرط جميعاً في حملتها، لا يمكن هاريس إعادة توحيد قواعد الحزب، ولا أن تحلم بمواجهة الحملة المخضرمة لترامب. لذلك جاء برنامجها في المؤتمر الديموقراطي الوطني جلياً صارخاً، وربما حاداً جداً.

بدأت هاريس أولاً بالتركيز على تمكين الطبقة المتوسطة كحلقة مركزية، ووعدت بتعزيز دور النقابات العمالية، وتمكين الأسر من حيازة البيوت، ودعم المدارس والأطفال، ومساومة الشركات العملاقة للأدوية، بهدف تخفيض أسعارها، … إلخ

ثم انتقلت هاريس للتركيز على استقطاب نقابات العمال وحقوق العمل. فعلى مدى ثماني سنوات، أتاحت سياسات ترامب ثم بايدن استعادة الصناعات الهاربة نحو الصين، فأمكن ترميم العلاقات مع نقابات العمال التي هجرت الحزب الديموقراطي احتجاجاً على تهميشها، متّهمة الحزب الديموقراطي بأنه المسؤول عن هروب الصناعة الوطنية. لكن، بالاستفادة من موجة تصنيعية عارمة فاقت أبعادها موجة التصنيع بعد الحرب العالمية الثانية، يحاول الديموقراطيون التوجّه بثقة أكبر لاستعادة مواقعهم المفقودة في النقابات الكبرى. ويستندون بقوة إلى ما قام به بايدن من إطلاق مشاريع البنية التحتية واستعادة الصناعة بمئات المليارات، وما رافقها من انخفاض لافت للبطالة رغم التضخم المتفاقم.

ثم انتقلت ثالثاً إلى التوجّه نحو استقطاب جمهور الشباب والنساء. فرغم صعود هيلاري كلينتون، ونانسي بيلوسي في الحزب الديموقراطي، بقيت قضية حقوق النساء قضية جانبية في البرنامج السياسي للحزب.

فتحت هاريس أبواب الحزب وأبواب حملتها الانتخابية للشباب والنساء. وفي المقدمة، ركّزت على قضية الإجهاض، وملكية النساء للقرارات المتعلقة بأجسادهن، ودعمت إعفاء الطلاب من ديونهم الدراسية ودعمت المدارس العامة.

التحدّي الرابع كان توحيد أجندات المكونات والأقليات، إذ لم تكن أجندات مجموعات الدفاع عن السود ومجموعات الدفاع عن اللاتينيين أو المسلمين أو الآسيويين… إلخ، تتقاطع إلّا في القليل من عناصرها. من هنا، كان التركيز على إعادة صياغة الأجندة العامة للحزب الديموقراطي تجاه القضية العنصرية في أميركا، وقضية الهجرة والمهاجرين، لتتهم هاريس ترامب بأنه المسؤول عن إجهاض كل اتفاق بين الحزبين من أجل التوصل إلى حلّ لمشكلة الهجرة غير الشرعية عبر الحدود.

وبعد، كانت اللوبيات المدافعة عن اللاتينيين، خصوصاً في الولايات الجنوبية، تدعم بقوة الحزب الجمهوري بسبب تشدّده في الموقف من كوبا وباقي الدول اليسارية في أميركا الجنوبية. لكن التطور الديموغرافي في هذه المجتمعات، وتحوّل موقف هاريس من قضية الهجرة، سمحا بتحقيق انعطافة مفاجئة في موقف هذه المجموعات لصالحها. بل ها هي تخاطب المجتمع العسكري لتعلن التزامها المطلق تفوّق الولايات المتحدة على منافسيها الدوليين.

خلاصة القول، إن خطابها يناقض خطاب بايدن، وكان خطاباً مباشراً وجامعاً. لكن، هذا الزخم الكبير في المؤتمر الوطني لا يحكي إلّا نصف الحقيقة من سيرة الانتخابات.

فبقدر ما تقول بعض النساء عن ترامب إنه يذكرهن بالصنف الذي يكرهونه من الرجال، يقول بعض الرجال البيض والمحافظين عن هاريس إنها مشاكسة، قوية الشكيمة، تذكّرهم بزوجاتهم الأولى.

وبدفعها أجندة امتلاك الأميركيين والأميركيات حرّيتهم في من يحبون، والتحكّم بأجسادهم كما يشاؤون، تواجه هاريس قوى المحافظة الدينية والمجتمعية، وخصوصاً في الحزام التوراتي (The Bible Belt)، وهي قوى لا هوادة معها.

وبقدر ما تتوجّه هاريس إلى النقابات العمالية وتتحدث عن رفع الضرائب على الشركات الكبرى وتخفيض أسعار الأدوية، متحدّية الشركات العملاقة، فإنها تواجه التضافر المتسارع لرجال الأعمال ضدّ برنامجها الاجتماعي.

وبقدر ما تدفع هاريس بأجندتها المتعلقة بالهجرة، بقدر ما تثير القوى المحافظة للمحافظين والقوميين من البيض، تدعمها قوى مالية وسياسية واجتماعية في مواجهة هاريس.

في خضم هذه المواجهة العاصفة، ثمة مؤشران قد يعملان لصالح هاريس: الأول، أن كتلة مهمّة من المتردّدين والحياديين بدأت تنعطف لصالحها؛ والثاني، أن 880 ألفاً من المتبرعين الصغار تبرّعوا لهاريس بمبالغ تتراوح بين 5 دولارات و50 دولاراً. وتظهر هذه الأرقام عمق تعلّق هؤلاء بما تعد به هاريس.

إنها لحظات حاسمة تعيشها الولايات المتحدة.

وفي كل الأحوال، ستكون الانتخابات المقبلة انعطافية في حياة البلاد. وفي كل الأحوال أيضاً، ستُلحق النتائج إحباطاً كبيراً بالمعسكر الخاسر، وسيتصاعد معه التوتر الاجتماعي بمقدارٍ لم تعرفه أميركا منذ عقود. وستُختبر من جديد صلابة مؤسسات الدولة، وقدرتها على استعادة التوازن. وفي نهاية المطاف، بشهادة كبار المؤرخين، سيمتحن هذا الاحتدام النموذج الديموقراطي الأميركي بمجمله، وسيُخضِعُه لاختبار غير مسبوق.

ويا له من تشويق مدهش!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى