نوافذ تونس مفتوحة على الغرب.. وعلى الشرق أيضا
التوجه الجديد لتونس نحو الشرق أثار قلق الاتحاد الأوروبي، حيث أشار جوزيب بوريل، المسؤول عن السياسة الخارجية للاتحاد، إلى أن وزراء خارجية الاتحاد قد ناقشوا التقارب التونسي مع الشرق في اجتماعهم الأخير ببروكسل.
لم يفوت مسؤولو الاتحاد الأوروبي فرصة دون التعبير عن قلقهم من توجه تونس شرقا لإقامة شراكات اقتصادية يصر البعض على أن يرى فيها تحولا عن الشريك الأوروبي. ومنذ توليه السلطة عام 2019، لم يتردد الرئيس التونسي قيس سعيد في إرسال رسائل واضحة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مطالبًا إياهما بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتونس وضرورة احترام سيادتها.
أن تتجه تونس شرقا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنها قررت إغلاق أبوابها أمام الغرب. وبدلا من أن يظهر الأوروبيون تذمرهم من هذا التوجه، كان عليهم أن يسألوا أنفسهم أولا: ماذا فعلنا من أجل تونس؟
يدرك الأوروبيون الإجابة تمامًا. فعلى الرغم من الوعود العديدة التي أطلقتها أوروبا لتونس، إلا أنها لم تلتزم بها. بعد ثورات “الربيع العربي”، اقتصر دورها على تقديم النصائح في ما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان، متجاهلةً أن تونس، التي تقدمت العالم بإلغاء العبودية عبر وثيقة رسمية، قدمت دروسًا في الديمقراطية وحقوق الإنسان للعالم أجمع.
علينا أن نلقي نظرة عن الكيفية التي تعامل بها صندوق النقد مع طلب تونس الحصول على قرض حدد بمبلغ 1.9 مليار دولار.
رغم أن المبلغ المقدم لا يرقى إلى مستوى الطموحات، وهو غير كافٍ بأيّ حال من الأحوال لإنقاذ شركة فردية، فما بالك بدعم اقتصاد دولة بأكمله، قدم الصندوق، بتأييد من أوروبا، شروطا صارمة تبدو كأنها مصممة لضمان الرفض التونسي. هذه الشروط تتلخص في: رفع الدعم، تقوية شبكات الحماية الاجتماعية، تحقيق المزيد من العدالة الضريبية، السيطرة على النفقات، إصلاح الشركات الحكومية الخاسرة، والتكيف مع التحديات الناجمة عن التغيرات المناخية.
الدعم الغذائي، الذي يُطالب صندوق النقد الدولي تونس بإلغائه، ما زال ساريًا في أوروبا، حيث خُصّصت للسياسة الزراعية المشتركة في الاتحاد الأوروبي ميزانية قدرها 386.6 مليار دولار للسنوات المالية من 2021 إلى 2027. وتُعد الضرائب قضية معقدة لا تزال بلا حل، ولم تنجح أيّ دولة أوروبية في السيطرة على نفقاتها، كما أن الشركات الحكومية في جميع الدول تواجه تحديات مالية. ولا توجد دولة استطاعت التكيف بشكل كامل مع التغيرات المناخية. وأخيرا، من يمكنه، بمبلغ زهيد مثل 1.9 مليار دولار، أن يجد حلولًا لهذه التحديات ويستجيب لكل هذه الشروط؟
اتخذ الرئيس قيس سعيد خطوة مدروسة بالاتجاه شرقا وعدم الاعتماد كليا على الغرب، الذي لم يكتفِ بشروط صندوق النقد الدولي الصارمة، بل فرض شروطًا إضافية لا تتناسب مع سيادة الدول. من بين هذه الشروط، فرض العمل بشكل إلزامي لمنع المهاجرين غير النظاميين من الوصول إلى السواحل الأوروبية.
الملف الثاني الذي هو مسار جدل أيضا، ملف الجمعيات التي شهدت طفرة كبيرة في أعدادها، فبعد أن كان عددها عام 2011 لا يتجاوز تسعة آلاف جمعية، ارتفع الرقم إلى أكثر من 23 ألف جمعية في السنتين الأخيرتين، حسب إحصائيات نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات، وأغلب هذه الجمعات ذات توجهات يمينية، كما توجد قرابة 15 ألف جمعية يصعب التثبت في مصادر تمويلها.
المتربصون بتونس كانوا ينتظرون أن تؤدي الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها البلاد إلى انهيار الاقتصاد التونسي، وقد تمادوا في الحديث عن معدلات التضخم وارتفاع الفائدة. لكن تونس، برغم كل شيء، تظل في وضع أفضل بكثير مقارنةً بالتحديات التي تواجهها دول أخرى.
لتوضيح الصورة نأخذ معدل التضخم كمثال: في تونس يبلغ معدل التضخم 7.2 في المئة، بينما هو في بلد مثل تركيا 71.6 في المئة، وفي مصر 28.10 في المئة. وعند النظر إلى نسب الفائدة نجد أن نسبة الفائدة في تونس تبلغ 8 في المئة حاليا، وهي تبدو معقولة مقارنة بنسبتها في تركيا حيث تبلغ 50 في المئة وفي مصر 27.75 في المئة.
واضح جدا أن تونس لم تضيع وقتها بالتشكي بل بكل كبرياء سعت إلى إيجاد حلول بديلة وعملية، ومن ضمنها التوجه نحو الشرق.
في ختام العام الماضي، شهدت العلاقات بين تونس وروسيا تطورًا ملحوظًا عقب زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلى تونس. وأعرب الجانبان عن رغبتهما في تعزيز التعاون الثنائي وتوسيع العلاقات التجارية في مختلف المجالات، مع استكشاف إمكانيات الاستثمار المتاحة.
وفي نهاية مايو، قام الرئيس قيس سعيد بزيارة إلى الصين لحضور منتدى التعاون الصيني – العربي، وهي زيارة أثمرت عن توقيع اتفاقيات اقتصادية في عدة قطاعات.
وقبل ذلك بأيام، أجرى زيارة تاريخية إلى إيران، وعقبها أعلنت وزارة الخارجية التونسية عن إلغاء تأشيرة الدخول للإيرانيين، مما يُعد خطوة نحو تعزيز العلاقات الثنائية.
هذا التوجه الجديد لتونس نحو الشرق أثار قلق الاتحاد الأوروبي، حيث أشار جوزيب بوريل، المسؤول عن السياسة الخارجية للاتحاد، إلى أن وزراء خارجية الاتحاد قد ناقشوا التقارب التونسي مع الشرق في اجتماعهم الأخير ببروكسل.
وعلى الرغم من عدم إدراج تونس في جدول أعمال الاجتماع، إلا أنه من المتوقع أن تُجرى المزيد من النقاشات، نظرًا إلى كون الاتحاد الأوروبي يُعتبر الشريك الاقتصادي الرئيسي لتونس، بحكم القرب الجغرافي بينهما.
كما ذكرت من قبل وأعيد التأكيد الآن، لقد أظهر الشعب التونسي تفهمًا استثنائيًا للأوضاع الاستثنائية التي تمر بها البلاد. وبالتزامهم بسياسة التقشف، ساهموا في إنجاز ملحوظ حيث نجحت تونس في سداد نصف ديونها الخارجية، والتي بلغت (3.7 مليار دولار من أصل 7.65 مليار دولار)، خلال النصف الأول من عام 2024. هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا وعي المواطنين وكبريائهم الوطني، الذي دفعهم لدعم حكومتهم والوقوف في وجه الضغوطات والشروط التعسفية التي يحاول الغرب فرضها عليهم.
بالإضافة إلى تشديد الإجراءات المالية وشد الأحزمة، كشفت الأرقام الرسمية التي أصدرها البنك المركزي في تونس عن زيادة في تحويلات المغتربين بنسبة 3.5 في المئة خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام مقارنة بالعام الماضي، مما يسهم في استمرارية دعم الاحتياطي النقدي للدولة.
وبلغ حجم التحويلات خلال الفترة الممتدة من يناير الماضي إلى غاية العاشر من يونيو الجاري 3.05 مليار دينار (985.48 مليون دولار).
وتؤكد هذه الأرقام أن تحويلات المغتربين تفوقت مرة أخرى على إيرادات القطاع السياحي التي بلغت خلال الفترة بين يناير ومايو الماضيين 2.1 مليار دينار (691.3 مليون دولار).
وبلغ حجم الاحتياطي النقدي للبلاد من بداية العام إلى غاية الجمعة الماضية 23.3 مليار دينار (7.5 مليار دولار)، مقابل 22.7 مليار دينار (7.3 مليار دولار) على أساس سنوي.
إذا لم تكن الأرقام كافية، فلنلق نظرة على سعر صرف الدينار التونسي الذي استطاع أن يتحدى الصعاب ويحافظ على استقراره مقابل الدولار، في حين أن العملات المحلية في الدول المجاورة تدهورت قيمتها بشكل كبير.
وفي مواجهة أزمة الجفاف، لم تقف الحكومة مكتوفة الأيدي، بل تعاملت مع الوضع بفعالية. ويدرك التونسيون أن مشكلة الجفاف ليست حصرية عليهم، بل هي قضية عالمية. وقد بدأت الحكومة مؤخرًا في تشغيل محطة الزارات لتحلية مياه البحر في ولاية قابس، والتي من المتوقع أن تلبي حوالي 10 في المئة من احتياجات السكان في تونس. هذه المحطة هي واحدة من ثلاث محطات تحلية مياه تم التخطيط لها على الساحل التونسي، بما في ذلك محطة في صفاقس، وأخرى في سوسة، والتي تعول عليها الحكومة للتغلب على أزمة المياه وإعادة إحياء الزراعة وتربية الحيوانات.
وإلى أن تحل تونس كامل أزماتها، ستبقي النوافذ مفتوحة على الشرق وعلى الغرب.
يحق للتونسيين، الذين يدركون أن صناعة الأعداء أمر سهل أما صناعة الأصدقاء فأمر صعب للغاية، طلب فرص الاستثمار ولو في الصين.