نماذج تفكير نقدي إسرائيلي
يوما بعد يوم، يخرج مزيد من المحلّلين السياسيين والعسكريين وكُتّاب الرأي في إسرائيل من إسار إقصاء القدرة على التفكير النقدي بشكل إرادي، ويضعون مآلات الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة في سياقها الصحيح. وهم لا يكتفون بتشخيص الواقع، على مستوى سير المعارك ونتائجها، بل يتوصلون إلى استنتاجات ملفتة.
وكي لا نبقى ضمن وهج عبارات التعميم، لا بُدّ من الوقوف عند بعض النماذج. أولها نموذج الخبير في الشؤون الأمنيّة والاستخباراتية يوسي ميلمان الذي كتب، قبل أيام في مدوّنته “سريّ”، إن المؤسّستين السياسية والعسكرية في إسرائيل ترفضان الإقرار بأن الجيش الإسرائيلي ودولة إسرائيل يواجهان الخسارة تلو الخسارة في جبهتين رئيسيتين، الشمالية مع لبنان والجنوبية مع قطاع غزّة، وكذلك في جبهة ثالثة وثانوية آخذة في التعقيد هي الضفة الغربية. وهما توهمان نفسيهما بامتلاك القدرة على تغيير هذا الواقع الآخذ بالتبلور منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبأنهما ستنجحان في إحداث انعطافةٍ تقود إلى الانتصار.
وليس هذا الوهم من نصيب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بمفرده، وهو الذي لا يني يكرّر أنه يسعى إلى تحقيق “النصر المطلق”، بل ينسحب على جميع وزراء الكنيست وأعضائه من ائتلاف الحكومة اليمينية الكاملة. وبرأيه، ربما حان الوقت للقول إن بقاء نتنياهو ووزرائه في سدّة الحكم هو النصر المأمول.
نموذج آخر يمكن العثور عليه في تقارير المحلل العسكري لصحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، وحتى تقارير صحيفة يسرائيل هيوم الضاربة بسيف نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرّف، حيث أشير في الأيام الأخيرة إلى ازدياد حدّة الجدل بين المؤسّستين السياسية والعسكرية. فقبل فترة وجيزة، ومن على منصّة صحيفة يديعوت أحرونوت، قدّم رئيس هيئة الأركان العامة، الجنرال هرتسي هليفي، صيغة تعيد إلى الأذهان النصيحة التي أُعطيت إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون، عندما كانت الولايات المتحدة متورّطة في حرب فيتنام، ومؤدّاها: “اخرج من هناك، وأعلن أننا انتصرنا”.
وفقًا لما يقوله هليفي، يوشك الجيش الإسرائيلي على “إخضاع حركة حماس عسكريًا”، وسيجري هذا الأمر بعد القضاء على ما تبقى من كتائب للحركة في رفح، وعندها لا خوف من إنهاء الحرب والسعي إلى عقد صفقة مخطوفين.
المهم في إطار التعقيب على نصيحة هليفي أن كلامه عن الانتصار من دون أدنى رصيد. وبحسب هرئيل، حتى لو قُتل أكثر من ثُلثي قوات “حماس”، بحسب ما يروّجه الجيش، فهذا لا يعني هزيمة الحركة التي استبدلت في أماكن كثيرة أسلوبها العسكري، ويبدو أنها لا تشكو من نقصٍ في أعداد المنضوين الجدد الذين خضعوا لعملية تدريبٍ قصيرة، وبحيازتهم أسلحة بسيطة (بندقية كلاشنيكوف وصاروخ آر بي جي)، ولكنها تلحق أضرارا فادحة. وحتى بموجب ما يؤكّده الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، مئير بن شبات، في “يسرائيل هيوم”، فإن الضربات التي لحقت بـ”حماس” قد تكون مؤلمة، لكنها ليست حرجة، وفي المستطاع الخروج منها، نظرا إلى أن الحركة ما زالت القوة المركزية في قطاع غزّة، ناهيك بوجود عوامل أخرى كثيرة، داخلية وخارجية، من شأنها أن تسهّل عليها سبيل الانتعاش.
النموذج الثالث، من بين نماذج أخرى كثيرة، أحد أبرز الخبراء في الشؤون الفلسطينية، ميخائيل ميلشتاين، من جامعة تل أبيب، الذي نوّه بأن الاستخفاف بالآخر الفلسطيني وفرض المنطق الذاتي عليه يميزان النظرة الإسرائيلية إلى “حماس” قبل 7 أكتوبر، وأيضًا بعده. وفي ما يتعلق بما بعده يجزم بأن إسرائيل اعتمدت على الأمنيات خلال الحرب، أكثر من أي شيءٍ آخر، وأكثر من اعتمادها على التقديرات الواقعية. ومنها مثلا إعلان أن “حماس” توشك على الانكسار، بسبب تفكيك أُطر كتائبها، أو لأنها خسرت سيطرتها على المجال العام، بينما هي مستمرّة عمليّا في السيطرة على غزّة.