إثر “نكسة” فرنسا في منطقة الساحل في أفريقيا، واضطرار باريس إلى سحب قواتها تباعاً من عدد من الدول، وآخرها النيجر آخر العام الماضي، تلقت الدبلوماسية الفرنسية صفعة أثّرت على السياسة الخارجية الفرنسية برمّتها. حاولت باريس إيجاد بدائل قوة في العلاقة مع لبنان، وتطوير العلاقات مع العراق والأردن ومصر، غير أن سمعتها الأفريقية أضعفت “الجاذبية” التي تتميّز بها مقارنة بإمكانات دول منافسة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، سجلت اختراقات لافتة في القارة السوداء.
يعتبر خبراء السياسة الخارجية في فرنسا أن على باريس استعادة “رصيد” تاريخي تفقده في أفريقيا، وأن “النكسة” لا تعني نهاية “مسار” فرنسا وما تملكه من علاقات تاريخ وثقافة واقتصاد ولغة مع كثير من دول القارة. يعتبرون أيضاً أن لا سياسة خارجية قوية لفرنسا في العالم من دون دبلوماسية متقدمة في أفريقيا.
في باريس من يرى أن طرق أبواب المملكة المغربية هو السبيل الحذق لإعادة استئناف سياسة أفريقية جديدة. تتحدث أوساط فرنسية مطّلعة عن توجه فرنسا برئاسة إيمانويل ماكرون إلى إجراء تعديل في سياستها الخارجية في شمال أفريقيا، يميل باتجاه المغرب بعد فشل محاولات باريس في السنوات الأخيرة في ترميم علاقاتها بالجزائر.
فشلت باريس في تفعيل “خيار الجزائر” على الرغم من جهود مكثّفة، منها زيارة رسمية قام بها ماكرون للجزائر في آب (أغسطس) 2022 ثم لاحقاً زيارة فرنسية أخرى قامت بها في تشرين الأول (أكتوبر) نصف الحكومة الفرنسية برئاسة إليزابيت بورن. وتكشف الصحافة الفرنسية عن أن تقييماً جديداً للتحوّلات في شمال أفريقيا، لا سيما تدهور نفوذ الجزائر في منطقة الساحل، انتهى، بحسب “الموند” الفرنسية إلى أن “الجزائر تعوّل على الماضي، فيما المغرب يستعد للمستقبل”.
والأرجح أن ترنّح السياسة الفرنسية في أفريقيا ينهل أسبابه أيضاً من تشاطر وسوء تقدير ارتكبتهما باريس في عهد ماكرون في مقاربة علاقاتها بدول شمال أفريقيا، وخصوصاً المغرب والجزائر. والواضح أن سعي فرنسا المتعثّر للاندفاع نحو “خيار الجزائر” أساء إلى علاقاتها بالمغرب من دون تحقيق أي فوائد في المقابل في العلاقة بالجزائر.
تهمس بعض المصادر بأن باريس بصدد الدفع باتجاه تحوّل دبلوماسي يعيد ترميم ما تصدّع في علاقات فرنسا بالمغرب. يأتي التحوّل الفرنسي المحتمل بعد استنتاج باريس صعوبة نجاح دبلوماسية محايدة ووسطية في العلاقة بدولتين تتصاعد حدّة الخلافات والتوتر بينهما إلى درجة قطع الجزائر علاقاتها بالمغرب منذ عام 2021، وأن باريس باتت تشعر أن سياستها السابقة ستؤدي إلى خسارتها مع البلدين.
والواقع أن أمر هذا التحوّل تجاوز مراحل التفكير والدراسة، وظهرت بوادره في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه للرباط في 26 شباط (فبراير) الماضي، وإعلانه من هناك “كتابة فصل جديد” في العلاقات الفرنسية المغربية. ذهبت معلومات أخرى إلى التحدث عن التحضير لـ”زيارة دولة” محتملة سيقوم بها ماكرون للمغرب. وكان سبق زيارة سيجورنيه للرباط استقبال زوجة الرئيس الفرنسي بريجيت ماكرون شقيقات العاهل المغربي الملك محمد السادس في قصر الإليزيه.
تجاوزت الرباط برشاقة مرحلة صعبة من العلاقات مع باريس. لاقى المغرب استدارة باريس صوب المملكة وفهم معانيها ومغازي الحاجة إليها. قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بحضور نظيره الفرنسي، إن “العلاقات المغربية الفرنسية غير عادية، ومتفردة لا مثيل لها ومتجذرة في التاريخ، وقائمة على أسس مصالح متبادلة”. من يعرف فرنسا يعرف طبيعة العلاقة التي لطالما نسجتها نخب باريس الثقافية والسياسية والاقتصادية مع المغرب إلى درجة شكّل المغرب وفقها عمقاً جغرافياً لقادة الرأي والسياسة والإعلام في ربوع الرباط وطنجة ومراكش وغيرها.
تدهورت علاقات فرنسا والمغرب بسبب ملفات عديدة، أهمها قرار باريس تخفيض حصّة التأشيرات الممنوحة للمغاربة والجزائريين والتونسيين. استاءت الرباط، بخاصة أنها تساهم بفعّالية في كبح تدفقات المهاجرين غير الشرعيين من بلدان جنوب الصحراء المتوجهين إلى أوروبا. أدى تراكم ملفات خلاف أخرى إلى مزيد من التدهور في علاقات البلدين، إلى درجة قيام المغرب بـ”إنهاء مهام” سفيره في باريس في شباط (فبراير) 2023 ورفض الرباط عرض فرنسا تقديم المساعدات إثر الزلزال الذي ضرب البلاد في ذلك العام.
لكن حساسية المغرب ومعيار الصداقة ارتبطا دائماً بالموقف من “مغربية الصحراء”. نالت الرباط اعتراف واشنطن بالأمر واقتربت دول أخرى، مثل إسبانيا وألمانيا، من وجهة النظر المغربية. في المقابل، بقيت باريس تسعى بارتباك وتعثّر وديباجات دبلوماسية لإمساك العصا من الوسط لعدم استفزاز الجزائر. وكان سهلاً استنتاج أن المقاربة أدت إلى إغضاب المغرب فتراكمت ملفات أخرى قادت إلى “إنهاء مهام” تمثيلها الدبلوماسي في باريس.
كان العاهل المغربي قد حدد في آب (أغسطس) 2022 أن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”. جاءت العبارات بسيطة واضحة غير قابلة للتفسير والاجتهاد. وعلى الرغم من خطاب الودّ الفرنسي المستجد باتجاه المغرب، فسيكون من المبكر الحديث عن إمكان اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء على منوال ما فعلته الولايات المتحدة.
تحدث وزير الخارجية الفرنسي عن دعم باريس “الواضح والمستمر” مقترح الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب لحل النزاع حول الصحراء الغربية. وسقف المقترح إقامة حكم ذاتي، فيما تدعم الجزائر مطلب جبهة البوليساريو الاستقلال الكامل والانفصال عن المملكة المغربية.
لاحظ المغرب تحسّناً في موقف باريس بشأن الصحراء، غير أن الرباط ما زالت تستنتج التزام فرنسا “الغموض الاستراتيجي” في هذا الملف. في باريس يتحدثون عن سعي فرنسا لإحداث هذا التحوّل صوب المغرب بحذر وتدرّج لمراعاة حساسيات الجزائر. وكان الإعلام الجزائري قد تحدّث في الأسابيع الماضية عن “مؤامرة أميركية إسرائيلية إماراتية مغربية” ضد مصالح الجزائر في المنطقة. وتخشى باريس من أن تُدرج الجزائر فرنسا في سياق ما تصفه الأخيرة بـ”تغير في النظام الإقليمي” في أفريقيا، خصوصاً أن تقارب باريس والرباط سيعدُّ إخفاقاً جديداً للدبلوماسية الجزائرية وإخلالاً بموازين القوى في المنطقة.
لكن بعيداً من تعقّد أي علاقة ثنائية لفرنسا بكل من الجزائر والمغرب، فإن باريس باتت تحتاج إلى إصلاح علاقاتها بالمغرب للالتفاف على الأزمة الدبلوماسية التي تعانيها في القارة الأفريقية، وخصوصاً مع دول الساحل. يستنتج خبراء في شؤون السياسة الخارجية الفرنسية ما تعانيه فرنسا من سوء سمعة في تونس وفشل في ليبيا، بحيث قد لا يبقى لفرنسا إلا تشاد في أفريقيا من دون أي ضمان، بعد ما قيل إنه محاولة انقلاب، أن تبقى إنجامينا صديقة لباريس.
وجب أخيراً النظر إلى الاستدارة الفرنسية المحتملة صوب المغرب بصفتها اصطفافاً دولياً جديداً إثر ظهور أعراض تحالف بين الجزائر وكل من روسيا وإيران يأخذ أبعاداً عسكرية. ومع ذلك فإن باريس حريصة على أن لا تفقد الجزائر وسط جلبة التقارب مع المغرب. في 11 الشهر الجاري أعلنت الجزائر في بيان تلقي الرئيس عبد المجيد تبون اتصالاً من نظيره الفرنسي. وبغضّ النظر عن ديباجة البيان، فقد اتفق على زيارة رسمية، جرى تأجيلها مراراً، يقوم بها تبون لفرنسا نهاية شهر أيلول (سبتمبر) على أن يُحدد تاريخها الرسمي لاحقاً. هنا فقط يطرح سؤال توقيت زيارة ماكرون للمغرب قبل هذا التاريخ أو بعده. ففي التوقيت ما يكشف مستوى استدارة تثير الجدل.