نزهة إيرانية في شمال إسرائيل!
بعد أقل من شهرين، في 6 حزيران (يونيو) 1982، غزت إسرائيل لبنان في عملية "سلامة الجليل"، وتنزهت في مناطقه كلها،
“بفرقة موسيقية ومجموعة من المشاة نستطيع احتلال لبنان”؛ قالها وزير الحرب الاسرائيلي موشيه دايان في السبعينيات واثقًا، حتى بعد صفعة حرب أكتوبر. وفي يوم الأحد 14 آذار (مارس) 1982، وقف أبو عمار على منصة مشرفة على عرض عسكري مشترك لقوى الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، في الذكرى الخامسة لاغتيال الزعيم اليساري كمال جنبلاط، وصاح بأعلى صوته: “فلتعرف إسرائيل أن الحرب على لبنان ليست نزهة”.
بعد أقل من شهرين، في 6 حزيران (يونيو) 1982، غزت إسرائيل لبنان في عملية “سلامة الجليل”، وتنزهت في مناطقه كلها، بالرغم من وجود الآلاف المؤلفة من مقاتلي القوات المشتركة وجنود الجيش السوري، ودخلت ثاني عاصمة عربية بعد القدس في 15 أيلول (سبتمبر). لم تواجه إسرائيل في نزهتها تلك مقاومة تذكر، باستثناء معركة مع الفلسطينيين في قلعة الشقيف، وأخرى مع مجموعات مختلفة الانتماءات في مثلث “الصمود” في خلدة جنوب بيروت.
كان ذلك الزمن إسرائيليًا بامتياز: خرجت منظمة التحرير الفلسطينية بقضّها وقضيضها من بيروت، وودعها وليد جنبلاط مطلقًا الرصاص في الهواء؛ وتراجع اليسار اللبناني، إلا بعض الخلايا الحية التي تمكنت من إخراج الجيش الإسرائيلي من بيروت بثلاث عمليات فقط، رسمت الحد الفاصل بين أرجوزة “الجيش الذي لا يقهر” وواقعٍ ميداني مختلف.
ما كان حزب الله قد ولد بعد. ضرب الشيوعيون والقوميون السوريون والبعثيون في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الجيش الإسرائيلي في مناطق لبنانية عدة كان يحتلها. وعندما ظهر حزب الله، خطف راية المقاومة من أهلها، تولى هو إكمال المهمة حتى إخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان (إلا من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر) في 25 أيار (مايو) 2000. بعيدًا عن التأويلات السياسية المختلفة لهذا الحدث، كان هذا أول يوم من أيام التراجع العسكري الإسرائيلي، بشهادة العديد من ضباطه، وفي مقدمهم رئيس أركانه آنذاك رافاييل إيتان. في القاموس الثوري، كانت هذه أول هزيمة فعلية لإسرائيل، التي خرجت من أرض عربية من دون معاهدة سلام. وإن كانت نبوءة مؤسس الدولة العبرية دايفيد بن غوريون بانهيار إسرائيل بعد أوّل هزيمة تتلقّاها لتصحّ فعلًا، فقد بدأ هذا الانهيار في لحظة عبور آخر جندي إسرائيلي بوابة فاطمة ليغلقها خلفه.
يمكن أن نقول براحة تامة إن حرب تموز (يوليو) 2006 كانت “هدف التعادل” بين إسرائيل وحزب الله. فإن تجاوزنا شعارات النصر الإلهي وأساطيره، وإن تجاوزنا أيضًا ما ورد مواربةً في تقرير “فينوغراد” حينها، كانت النتيجة أن ربح حسن نصر الله تحرير عميد الأسرى سمير القنطار وصمود 33 يومًا، في مقابل سقوط أكثر من 1200 ضحية لبنانية ونحو 1000 جريح، وفناء نصف أبنية الضاحية الجنوبية لبيروت، وخراب قرى الجنوب، وتهجير نحو مليون نسمة، وعدد غير محدد من الضحايا والجرحى في صفوف الحزب نفسه، وأخيرًا رسم قواعد اشتباك مضبوطة، حولت المنطقة المحاذية للخط الأزرق إلى أكثر المناطق أمانًا في العالم، من أيلول (سبتمبر) 2006 حتى 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
اليوم، الوضع مختلف تمامًا. في الحرب المنتظرة “على أحر من الجمر” بين جنوب لبنان وشمال إسرائيل، لم تعد مناطق حزب الله مهددة جديًا بـأن تكون هي ميدان الحرب. فقيادة الأركان في الجيش الإسرائيلي نفسها مقتنعة بأن ميدان الحرب الآتية هو الداخل الإسرائيلي، وإلا ما كان الكابينت الإسرائيلي ليصر على تراجع حزب الله عن الحدود حتى نهر الليطاني تمهيدًا لإعادة سكان مستوطنات الشمال آمنين إلى بيوتهم. ولهذا تفسير منطقي واحد: إسرائيل خائفة جدًا من غزو حزب الله الجليل، وبدلًا من أن نشهد نزهة إسرائيلية في جنوب لبنان كما يهدد الثلاثي الكاكي غالانت – غانتس – أيزينكوت، يضع العالم يده على قلبه خوفًا من “نزهة إيرانية في شمال إسرائيل”، تكون نسخة أكثر تطورًا وأشد عنفًا من نزهة حماس في غلاف غزة في 7 أكتوبر. وإن كان الشيء بالشيء يذكر، هدّد النائب والإعلامي المصري مصطفى بكري إسرائيل قائلًا إن أي حرب بين القاهرة وتل أبيب “لن تدور رحاها في رفح الحدودية، بل في قلب تل أبيب”. وهذا دليل آخر على انهيار أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”، وبالتالي دليل على التوغل أكثر في مسألة الانهيار الإسرائيلي الذي تنبأ به بن غوريون.
قبل يومين، نشر موقع “كالكاليست” العبري تقريرًا “مرعبًا”، هو خلاصة ورشة عمل بحثية أقامها معهد سياسات مكافحة الإرهاب في جامعة رايخمان قبل ثلاث سنوات، بمشاركة 6 مراكز بحوث 100 خبير في الإرهاب، إلى جانب مسؤولين كبار سابقين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وأكاديميين ومسؤولين حكوميين، درسوا جميعًا الجوانب الحاسمة المتعلقة بإعداد الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية لحرب متعددة الساحات. خلص هذا التقرير إلى أن الحرب مع حزب الله تعني: سقوط 2500 إلى 3000 صاروخ يوميًا على إسرائيل في كثافة ستؤدي إلى نفاذ مخزون القبة الحديدية خلال أيام؛ تعطيل أنشطة سلاح الجو والحد من قدرته على العمل بتوجيه الصواريخ الثقيلة والدقيقة إلى المدارج؛ قصف محطات توليد الكهرباء والموانئ البحرية في حيفا وأشدود بصواريخ ذات رؤوس حربية تزن مئات الكيلوغرامات؛ ضرب مصانع الأسلحة ومستودعات الطوارئ والمستشفيات بعشرات المسيّرات الانتحارية الإيرانية الصنع؛ وسقوط آلاف القتلى والجرحى في الجبهتين الشمالية والداخلية. فإن كانت ميني-حرب مع حماس دفعت ببعض المسؤولين الإسرائيليين إلى الدعوة لاستخدام النووي ضد غزة، فكيف سيكون الأمر مع جماعة “الرضوان”؟ إن العالم كله حينها سيكون “واقفًا على رِجل ونصف”.
لا بدّ من الاعتراف بأن إيران أحسنت تحضير حزب الله ليؤدي هذا الدور في لعبة الخط الموازي للصراع العربي – الإسرائيلي، وهي قادرة اليوم على الاستثمار في قوته، فيما تشبه إسرائيل القطة التي تتلوى على صفيح ساخن على وقع طبول الحرب، فتنشب مخالبها بلا وعي في أي شيء، وفي كل شيء. ولا ننكر أبدًا أن إسرائيل ستنفذ تهديدها بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، لكن الذي سيجري في الداخل الإسرائيلي “لا يمكن تصوره” كما قال البروفيسور بوعز غانور، أهم المشاركين في إعداد الدراسة آنفة الذكر.
لن تكون حرب لبنان الثالثة – بحسب العداد الإسرائيلي – نزهةً أبدًا، ولن ينجو منها كثير من اللبنانيين والإسرائيليين، وربما لن تنجو المنطقة بسببها من كارثة حرب إقليمية كبرى. الأخبث من هذا كله أن يكون أملنا جميعًا لتجنب هذا الجحيم معقود على جو بايدن. فعسى أن يتمكن – إن تذكّر طبعًا – من شدّ لجام نتنياهو وصحبه المتهورين.