نرجس محمدي.. صوت يصدح من داخل سجون إيران لمواجهة القمع والاستبداد
على مدى عقدين بين شقي رحى المحاكمات والملاحقات وقيود جدران السجون والإقامة الجبرية، عجز النظام الإيراني القمعي عن كسر شوكة الناشطة الحقوقية نرجس محمدي.
ونرجس محمدي، البالغة (53 عاما)، ناشطة إيرانية بارزة تعرضت للاعتقال عدة مرات دفاعا عن معركتها ضد قمع النساء في بلادها وكفاحها من أجل تشجيع حقوق الإنسان والحرية للجميع.
وكأن أفكار نرجس محمدي استقت قوتها من ملامحها المفعمة بالجمال والإرادة، إذ نادت بإسقاط الاستبداد الديني وعقوبة الإعدام، وقاومت من خلف جدران السجون لانتزاع حقوق النساء.
ويصل صوت نرجس رغم الحبس والقمع والتنكيل إلى شعب بلادها عبر بيانات تحررية تنقلها أسرتها بالمنفى وموقع إلكتروني يحمل اسمها وحسابيها بمنصتي “إكس”، و”إنستغرام”.
لم يقوَ السجن على نشاط محمدي، التي كتبت مقالا في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، الشهر الماضي، بالتزامن مع الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة في بلادها.
واستحقت نرجس محمدي أن تنال عدة جوائز دولية مرموقة أبرزها جائزة نوبل للسلام في صيف عام 2023، لدفاعها عن المضطهدين في إيران لا سيما النساء.
ورغبة في كبح جموحها الحقوقي، فرضت محكمة إيرانية مؤخرا إضافة عام جديد من الحبس للأحكام السابقة التي تواجهها محمدي، عقابا على آرائها الحرة التي تُسرب من سجنها للعالم رفضا لقمع النساء في طهران.
ومع هذا الحكم الجديد، يصل مجموع أحكام ملاحقات النظام الإيراني بالسجن لنرجس محمدي التي اختيرت ضمن أفضل 100 امرأة في عام 2024، إلى 13 عاما وثلاثة أشهر، و154 جلدة، و4 أشهر من عقوبة تنظيف الشوارع، وعامين من منع مغادرة البلاد، وعامين آخرين من حظر استخدام الهواتف الذكية، وغرامتين ماليتين، وحظر النشاط الاجتماعي والسياسي والنفي، وفق تقارير صحفية إيرانية.
وباتت نرجس محمدي، كما تصفها عادة بيانات حقوقية دولية، أيقونة إيران وصوتها الحر المقاوم ضد الاستبداد والاضطهاد ورمزها النضالي لا سيما في القضايا النسوية.
وتشيد منابر التنوير والحريات في العالم بإنتاجها الأدبي وخاصة كتاب “التعذيب الأبيض” الذي يفضح جرائم سجون إيران السوداء.
ورغم حضور اسم نرجس محمدي في قلب المطالب الدولية بإطلاق سراحها على مدى سنوات طويلة، إلا أن النظام الإيراني لا يزال عصي على الاستجابة، خاصة وأن محمدي غير قابلة للتطويع أو التدجين أو الاستئناس، إذ أعلنت مرارا أنها “ستواصل نضالها من أجل حقوق الإنسان حتى لو دفعت حياتها ثمناً لذلك.
فلاش باك
ولدت الناشطة الإيرانية نرجس محمدي في 21 إبريل 1972 بمدينة زنجان والتي تبعد 298 كيلومترا شمال غربي العاصمة طهران.
ونشأت محمدي داخل وسط عائلي متوسط الحال لكنه يتسم بالثقافة والتنوير والمعايشة لأجواء الثورة ضد النظام الملكي في إيران عام 1979، وبعد إنهاء دراستها الثانوية التحقت بجامعة الإمام الخميني الدولية في قزوين ودرست الفيزياء النووية.
وعندما كانت نرجس محمدي طالبة جامعية أسست وخمسة طلاب آخرين منظمة باسم “الجامعيون المتنورون”، لكنها واجهت معارضة وتهديدات من الجامعة ولم تمنح تصريح لها، ومع إصرار المؤسسين على مواصلة نشاطهم اعتقلت نرجس مرتين.
وبدأت محمدي العمل في حقل الصحافة عام 1996 من خلال كتابة مقالات حول حركة الطلاب والنساء بعدد من الصحف المحلية، وبعد التخرج في الجامعة أسست منظمة مع عدد من الخريجين الآخرين ورفضت وزارة الداخلية منح ترخيص للمنظمة، لكنها واصلت نشاطها السياسي والفكري.
وفي عام 1998 تلقت نرجس أكبر عدد من قرارات التوقيف والاعتقال والعقوبات وأحكام الجلد وسنوات السجن، في تاريخ النضال النسوي بإيران، وفي العام التالي تزوجت تقي رحماني، وهو ناشط سياسي قضى 11 عامًا من حياته في السجن بإيران.
وانتسبت محمدي في عام 2001، لمركز المدافعين عن حقوق الإنسان في إيران، وقادت مع آخرين حملات للإفراج عن سجناء سياسيين، لكن هذا العام أيضا قادها إلى الاعتقال والحبس الانفرادي لأول مرة وتلاها الحكم عليها بالسجن لمدة عام واحد، لتبدأ في نضال لم تستطع طهران أن تهزمه بعد.
وفي عام 2006، أنجبت نرجس محمدي طفليها التوأمين علي وكيان، واللذين صارا مع الأب في ما بعد سفراء لولدتهما نرجس محمدي من محل الإقامة بالمنفى في باريس.
وفي العام نفسه، أسست محمدي منظمة نسائية ورفضت وزارة الداخلية الإيرانية كالعادة منحها ترخيص، وانتخبت في عام 2008 رئيسة تنفيذية للمجلس الوطني للسلام بعد عام من تأسيسه، بأغلبية مطلقة من 83 شخصية سياسية وثقافية معارضة في إيران.
وفي عام 2009 أصدرت وزارة المعلومات الإيرانية أمرا مباشرا بطرد نرجس من وظيفتها في شركة هندسية بسبب أنشطتها الحقوقية الجريئة.
ومع استمرارها في نشاطها الحقوقي الفريد في تاريخ إيران، تم القبض عليها في عام 2010، لتبدأ رحلة العقوبات الأشد قسوة وبطشا، إذ حكم عليها بالسجن لمدة 11 عامًا في المحكمة التمهيدية، والتي تم تخفيضها لاحقًا إلى 6 سنوات في محكمة الاستئناف.
وفي عام 2016، حكم على نرجس محمدي بالسجن مجددا لمدة 16 عامًا، وتم تأييد تلك العقوبة في محكمة الاستئناف، ورفض طلبها بالإفراج المشروط في 2019، قبل أن يطلق سراحها بكفالة، كما تم القبض عليها مرة أخرى في عام 2021 و مازالت في محبسها حتى الآن.
وطيلة سنوات المحنة، كان والدها كريم محمدي، وأمها “عذرا بازركان” لسان حال ابنتهما، للمطالبة بإطلاق سراحها ورفض تعذيبها في السجون.
وكثيرا ما عبرت نرجس محمدي عن تعرضها لاعتداءات جسدية مع سجينات أخريات وصلت إلى حد كدمات موجعة في جميع أنحاء جسدها.
وبخلاف الألم الجسدي طال نرجس محمدي أيضا ألمًا نفسيًا بالحرمان من أسرتها وأبنائها، حيث كتبت في إحدى سنوات السجن رسالة مؤلمة ذكرت فيها عبارة “بدأت أنسى ملامح أطفالي”.
ولم ترَ نرجس محمدي، بحسب تصريحات أسرتها أواخر 2023، زوجها وابنيها المقيمين بالمنفى في باريس منذ عدة سنوات، ولا تزال محرومة من حق إجراء مكالمات هاتفية، ولم تتحدث مع ولديها التوأمين البالغين 17 عاما اللذين تسلما جائزة نوبل نيابة عنها منذ عامين تقريبا.
مواقف صلبة
ولا تزال محمدي رمزا للصمود في مواجهة عقوبات النظام الإيراني الجسدية والنفسية، إذ أضيف إليها حُكم جديد بالسجن لمدة عام آخر بتهمة “الدعاية ضد النظام”.
وفي أبريل الماضي، قالت نرجس محمدي، في رسالة من محبسها إن “قمع السلطات للنساء ومعاداتهن، ليس من باب الحرص على تطبيق فريضة دينية، الأمر متعلق بهزيمة الاستبداد الديني، فالسلطة تدرك أن استسلامها لمطلب النساء يعني فشل نظامها الديني”.
وأكدت أن “الحجاب الإجباري للنساء في إيران بمثابة الاستسلام أمام تسلط وهيمنة النظام غير الشرعي، كما أن السلطة تعتبر فرض الحجاب الإجباري أداة لاستمرار سلطته وبقائها”.
وفي يونيو الجاري، سربت نرجس رسالة تشير إلى وجود 21 سجينة سياسية تزيد أعمارهن على 60 عاما بسجن إيفين، وأكدت فيها أن “سجنهن علامة على قسوة النظام الإيراني وإرادة النساء في التحرر”، وقالت إن “المجتمع تجاوز النظام الديني الاستبدادي ويريد خطة جديدة للحرية والمساواة”.
ورغم القيد الإجباري اشتبكت نرجس محمدي مع قضايا بلادها، إذ أعلنت عبر حساباتها بمنصات التواصل الاجتماعي أنها لن تشارك في “الانتخابات غير القانونية للنظام الفاسد وغير الشرعي”.
ومن المقرر أن تجرى الانتخابات الرئاسية الإيرانية يوم الجمعة 28 يونيو الجاري، لانتخاب الرئيس التاسع، خلفا للرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، وسط حملات بمنصات التواصل تدعو للمقاطعة.
وتكريما لمشوارها النضالي الأبرز في تاريخ إيران، حصلت نرجس محمدي على عدة جوائز دولية، منها جائزة ألكساندر لانغر الدولية لحقوق الإنسان عام 2009، وجائزة بير أنجر التي تمنحها الحكومة السويدية للحريات وحقوق الإنسان عام 2011، وجائزة اليوم العالمي لحرية الصحافة عام 2016، جائزة ساخاروف من الجمعية الفيزيائية الأمريكية عام 2018.
وفي عام 2022 أدرجت في قائمة هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، التي ضمت 100 امرأة “من الأكثر إلهاما وتأثيرا في العالم”.
وحصلت على جائزة نوبل في عام 2023 من بين 351 مرشحا، بينهم 259 فردا و92 منظمة، وهي ثاني إيرانية تفوز بهذه الجائزة بعد شيرين عبادي التي فازت بجائزة نوبل للسلام عام 2003.
واختيرت محمدي لجائزة نوبل للسلام بسبب “نضالها ضد اضطهاد المرأة الإيرانية وجهودها لتعزيز حقوق الإنسان والحرية للجميع”، وتم تسليم الجائزة لزوجها، تقي رحماني، وولديها التوأمين كيانا وعلي.
وصرح التوأمان عقب تسلم الجائزة قائلين “نحاول أن نكون صوت والدتنا”، مؤكدين أن “الجائزة ليست فقط لوالدتهما، بل لجميع النساء الإيرانيات المناضلات”.
وفي فبراير 2024، أعلنت جمعية “أكسل اشبرينجر ألمانيا” أنها ستقوم بحملة من أجل تغيير اسم شارع السفارة الإيرانية في برلين إلى اسم نرجس محمدي، كما اختارتها مجلة “تايم” ضمن 100 شخصية مؤثرة في العالم.