مع بداية الجولات التي تقوم بها الهيئة التحضيرية للحوار الوطني، واقتراب شهر آذار/مارس وهو الموعد الذي ستعلن فيه تشكيلة الحكومة الانتقالية الجديدة. تتزايد التساؤلات حول طريقة الوصول إلى التعددية السياسية في سوريا.
وبسبب تجارب إقليمية ماثلة أمامهم ينفر معظم السوريين من فكرة المحاصصة أو تقاسم السلطة على أساس “كوتات” أو حصص محددة سلفاً. وغالباً ما يؤدي هذا النوع من المحاصصات إلى جمود سياسي، إذ تحوّلت الحكومات إلى ساحة للصراعات بين الفصائل بدلًا من أن تكون أداة لحلها. كما ينتج هذا النوع من التسويات أنظمة سياسية غير ديمقراطية تتخندق فيها النخب الطائفية والإثنية في المؤسسات في مقابل تعطيل أي تمثيل سياسي مجتمعي فاعل.
من جهة ثانية، يرى كثيرون أن الأولوية في المرحلة الانتقالية يجب أن تكون لتحقيق الأمن واستعادة مؤسسات الدولة قبل فتح المجال لأية عملية سياسية واسعة. هذا الطرح يبدو منطقياً من حيث تجنّب الفوضى، والتركيز على تأمين الخدمات الأساسية للناس وخاصة بعد سنوات طويلة من عدم الاستقرار والركود الاقتصادي والعقوبات.
ولكن في نفس الوقت، قد يكون الانتظار حتى نهاية المرحلة الانتقالية لإطلاق الحياة السياسية محفوفاً بالمخاطر. فمن دون مسارٍ سياسي واضح، قد تصبح السلطة التنفيذية مهيمنة على القرار، مما يزيد من حالة عدم الثقة ويفتح المجال أمام أزمات جديدة.
بين هذين الطرحين – التقاسم المبكر للسلطة أو تأجيل العملية السياسية – تبرز الحاجة إلى مسار متدرّج Gradual يجمع بين الاستقرار السياسي والتطور والانفتاح التدريجي للمؤسسات. هذا النهج يسمح بتوسيع المشاركة السياسية بالتوازي مع تعزيز الأمن وبناء مؤسسات قادرة على إدارة العملية الانتقالية. فبدل الذهاب فوراً إلى انتخابات شاملة أو فتح المنافسة السياسية بشكل كامل، يجب البدء بإعلان آلية تضمن إشراك القوى السياسية بطريقة مدروسة، تمنع الفوضى وتؤسس لمرحلة انتقالية أكثر استقراراً.
التدرج أم إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات
في حين سيطرت فكرة الانتخابات السريعة على الحالات الانتقالية في التسعينيات وخلال العقد الأول من الـ 2000 واعتبرت الانتخابات خطوة ضرورية لضمان التعددية وكسب الشرعية، ركنت التجارب الانتقالية في العقد الأخير إلى الابتعاد عن هذا التسرع الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية. عندما تكون الأوضاع الأمنية غير مستقرة، فالانتخابات والمنافسة السياسية لا تسهم في بناء الديمقراطية بقدر ما تفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والصراعات.
ويدور نقاش مستمر ضمن حقل دراسات التحول السياسي، حول التسلسل Sequencing الأمثل لعملية الانتقال من النزاع إلى الاستقرار السياسي. يذهب بعضهم إلى أن الأولوية يجب أن تُعطى لبناء مؤسسات الدولة قبل السماح بعملية سياسية واسعة. ويستند أنصار ما يعرف بـ “بناء المؤسسات قبل الانفتاح السياسي” (Institutionalization Before Liberalization – IBL)، إلى أن أي انفتاح سياسي قبل ترسيخ المؤسسات القادرة على استيعاب التنافس الديمقراطي سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار بدل تحقيق الديمقراطية. يجادل هذا التيار بأن الدول الخارجة من نزاعات تحتاج أولاً إلى مؤسسات تنفيذية قوية، ونظام قانوني مستقر، وآليات فعالة لضبط الخلافات قبل التفكير في أي انفتاح انتخابي أو سياسي. تستند هذه الحجة إلى تجارب مثل أنغولا (1992) وليبيريا (1997)، حين أدت الانتخابات المبكرة إلى تجدّد النزاع المسلح بدل تحقيق الاستقرار.
في المقابل، يرى تيار آخر أن تأخير العملية السياسية بحجة بناء المؤسسات قد يؤدي إلى ترسيخ حكم غير خاضع للمساءلة. هذا النموذج، ينطلق من فرضية أن تركيز السلطة في يد حكومة مؤقتة غير منتخبة لفترة طويلة قد يعزز منطق السلطوية ويؤدي إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية من دون الوصول إلى نتائج واضحة.
لكن بين هذين النموذجين – إعطاء الأولوية لبناء المؤسسات، أو الانفتاح السياسي المبكر – برزت مقاربة ثالثة تقوم على التدرج السياسي الموجّه Gradualist Approach، وهو نهج يوازن بين ضرورة توطيد الأمن وتقديم الخدمات وتعزيز المؤسسات وبين السماح بفتح المجال السياسي وفق معايير مضبوطة. بحيث يرى أنصار هذا النهج أن التدرج يسمح ببناء مؤسسات قادرة على استيعاب التعددية والتدرج لا يعني تقاسم السلطة في صيغ محاصصة غير فعالة، ولا يعني القفز مباشرة نحو انتخابات شاملة. بل هو مسار يقوم على توسيع تدريجي للحياة السياسية، بحيث يتم إشراك القوى السياسية وفق مراحل متتالية تضمن عدم تحول التنافس السياسي إلى عامل يهدد الاستقرار. وبحيث تتحول الفترة الانتقالية إلى عملية إعادة تشكيل تدريجية للمجال السياسي المفقود في البلاد منذ عقود حتى لا يكون مصدراً للصراع، بل وسيلة لحلّه.
وهنا بالتحديد يبرز دور عمليات آليات التشاور Consultative Mechanisms المنظمة والواسعة، فقد أثبتت التجارب السابقة أن المشاورات الوطنية، إذا تم تنظيمها بشكل صحيح، تسهم في تحقيق إجماع حول النظام السياسي الجديد، مما يقلل من احتمالات الانقسام مستقبلاً.
ولكن كيف تعمل آليات التشاور؟
على الرغم من أن التشاور يمثل أحد أهم الآليات لضمان انتقال سياسي مستقر، إلا أنه ليس عملية سهلة أو مضمونة النتائج. ففي العديد من التجارب السابقة، تحوّلت آليات التشاور من أداة لتحقيق الاستقرار إلى ساحة صراع بين القوى السياسية، حيث استُخدمت من قبل بعض الأطراف لترسيخ نفوذها بدلاً من التوصل إلى توافق وطني حقيقي. ولذلك يمكن الجزم أن نجاح التشاور يعتمد بشكل أساسي على ثلاثة عوامل: 1) مشاركة الفرقاء والقوى السياسية في البلاد 2) إشراك المجتمع الأهلي والمدني بشكل فاعل 3) مستوى عالٍ من الشفافية الإعلامية خلال العملية التشاورية.
التوازن بين النخب والمجتمع: من يحق له المشاركة؟
سياسياً، إحدى المعضلات التي تعترض أية عملية تشاور وطني هي تحديد المشاركين المدعوين إلى طاولة الحوار وتحديد التوازن بين ما يسمى بالنخب السياسية من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
يستخدم مصطلح “النخب” Elites في هذا السياق للإشارة إلى الأطراف العسكرية التي لها وجود على الأرض أو القوى السياسية التي شاركت بشكل أو بآخر في الثورة أو في العملية السياسية خلال السنوات السابقة وأصبح لها وزن سياسي وعسكري وهرمية قيادية هو الأمر الذي يدفع إلى تصنيفها ضمن النخب الفاعلة. وخلال فترة الانتقال السياسي، تكتسب هذه النخب دوراً أساسياً في إنجاح أو إفشال العملية السياسية الانتقالية.
فمن حيث المبدأ، كلما كانت العملية شاملة للنخب، زادت فرص نجاحها، لكن محاولة إشراك الجميع قد تتحوّل إلى عامل تعطيل بدلًا من أن تكون وسيلة لتحقيق الاستقرار. لأن إشراك جميع الفاعلين السياسيين، بمن فيهم الجماعات التي ليس لديها التزام واضح بالعملية الانتقالية، قد يسمح بعرقلة الحوار بدلاً من دفعه إلى الأمام. وتاريخياً، عانت بعض الدول من انهيار المفاوضات بسبب مشاركة ما يسمى بالـ “Spoilers“، أو الجهات التي تستفيد من الفوضى أو التي لا ترى في الحل السياسي مصلحة لها ولذلك كان من الأفضل استثناؤها.
في المقابل، قد تؤدي سياسات الإقصاء غير المدروسة إلى خلق معارضة خارج النظام الانتقالي، مما يهدد الاستقرار على المدى الطويل. لذا، لا بد من وضع معايير واضحة وشفافة للمشاركة توازن بين تحقيق الشمولية ومنع تعطيل العملية السياسية.
المشاورات على الطريقة السورية
لكي يكون الانتقال السياسي في سوريا مستقراً وقابلاً للاستمرار، يجب أن يُصمم بشكل تدريجي ومدروس، بحيث يراعي المتطلبات الأمنية والسياسية، ويضمن توسيع المشاركة وتحقيق التوازن بين إشراك الفاعلين السياسيين من جهة، وإشراك فعاليات وقوى سياسية واجتماعية جديدة منبثقة من المجتمع من جهة ثانية، وحماية العملية من الفشل بسبب فقدان الأمن والخدمات في البلاد، وسوء إدارة العملية الانتقالية أو التنافس غير المنضبط داخلها من جهة ثالثة. وبناءً على التجارب السابقة، يمكن تحديد عدد من المبادئ الأساسية التي يجب أن تحكم هذا المسار.
البداية مع “النخب”: مفاوضات منظمة بين الفاعلين السياسيين الأساسيين
يوصى بأن تبدأ المشاركة السياسية بشكل تدريجي، بحيث تكون المرحلة الأولى مخصصة لبناء تفاهمات أولية بين القوى الفاعلة سياسياً. لا يعني ذلك اقتصار المرحلة الانتقالية على النخب، لكنه يعني أن أية محاولة لإطلاق عملية سياسية واسعة قبل تحقيق حد أدنى من التفاهم بين الفاعلين الرئيسيين قد تؤدي إلى شلل سياسي وانقسامات حادة تؤثر على المرحلة الانتقالية برمتها.
فقد قدمت التجربة الليبية مثالاً واضحاً على مخاطر القفز إلى العملية الانتخابية قبل بناء تفاهمات بين القوى السياسية والعسكرية. فغياب إطار مشترك بين الفاعلين أدى إلى مشهد سياسي غير مستقر، حيث تنافست الحكومات على الشرعية من دون وجود مرجعية واضحة لحل النزاعات السياسية.
توسيع المشاركة تدريجياً ليشمل المجتمع المدني والجمهور
بعد تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار في المشهد السياسي، يجب أن تتوسع العملية الانتقالية لتشمل المجتمع المدني والجهات الفاعلة غير الحكومية. والمشاركة المدنية لا تعني أن يكون لكل طرف محلي دور مباشر في الحكم الانتقالي التنفيذي، لكنها تعني أن يكون للمجتمع أدوات حقيقية للتأثير في العملية السياسية، عبر منصات تشاورية تتيح نقاشاً واسعاً حول القضايا الأساسية للانتقال.
إن إشراك المجتمع المدني ضروري للحفاظ على شرعية العملية السياسية، لكنه يجب أن يتم ضمن إطار يسمح بمشاركة منظمة، وليس مجرد إضافة أصوات غير مؤثرة. ففي نموذج جنوب أفريقيا لم تكن المشاورات مقتصرة على الفاعلين السياسيين، بل تم تصميم عملية تشاورية وطنية مكّنت قطاعات واسعة من المجتمع من المساهمة في صياغة الدستور، مما عزز من قبول العملية الانتقالية ومنع احتكارها من قبل نخب محددة.