دولة الإحتلال

نتنياهو يفاوض ولا يفاوض

تخلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن تصلبه الواضح في رفض المفاوضات غير المباشرة مع حركة حماس لعقد صفقة الأسرى وملحقاتها السياسية والأمنية من دون أن يتخلى عن تصلبه في النتيجة النهائية، وبعد أن كانت وفوده التفاوضية تعود من القاهرة أو الدوحة أو باريس ولا يعرف أحد هل ستعود مرة أخرى أم لا، باتت الآن تنتهي من جلسة ثم تعود سريعا بقرار من نتنياهو شخصيا.

وجد رئيس حكومة الحرب أن ممانعاته في إرسال وفوده تحمل خسائر سياسية باهظة، فقرر أن يتبع طريقة “يفاوض ولا يفاوض”، بمعنى يرسل بعض رؤساء الأجهزة الأمنية إلى أي من العواصم العربية والدولية التي تستضيف محادثات ويبدو متجاوبا معها بشكل نظري وعند الشروع في رسم معالم صفقة حقيقية يضع عصيّه بين عجلاتها، فتتعطل وتعود وفوده إلى تل أبيب وتستعد لخوض الجولة المقبلة.

أراحت هذه الطريقة نتنياهو وحكومته، وحليفته الولايات المتحدة، والوسيطين المصري والقطري، وأوحت للمجتمع الدولي أن إسرائيل حاضرة في المفاوضات، وكسرت هذه المسألة الصورة الذهنية السلبية عن نتنياهو، فذهاب الوفود وعودتها وما تحدثه من ضجيج مريح له، ويظهره كمن يريد حلا، ويتمكن من وضع الكرة في مرمى حماس كلما أخفقت جولة تفاوضية في إحراز تقدم يؤدي إلى هدنة في قطاع غزة.

استفاد بنيامين نتنياهو من أسلافه في المفاوضات التي أجريت سابقا مع السلطة الفلسطينية عقب التوقيع على اتفاق أوسلو منذ حوالي ثلاثة عقود، حيث دخلوا في مفاوضات مضنية مع رئيسها الراحل ياسر عرفات ثم خلفه محمود عباس ولم يقدموا تنازلا حقيقيا لاستكمال بناء هياكل السلطة الوطنية والتمهيد لإعلان دولة فلسطينية، بل تهدمت الكثير من جدران السلطة، وغاب البحث عن مجال للإعلان عن الدولة.

قرر نتنياهو تفخيخ المفاوضات حول صفقة الأسرى من داخلها ليطيل عمره السياسي في السلطة، وكي لا تؤدي إلى تهدئة تمهد لوقف إطلاق النار في غزة، ثم تقود إلى حديث سياسي حول المرحلة المقبلة، والتي تتحدث دول عدة، بينها الولايات المتحدة، عن مفاوضات تفضي إلى الإعلان عن دولة فلسطينية خلال السنوات المقبلة.

شعر رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية أن تكلفة المشاركة في أي مفاوضات أقل من مقاطعتها، وتيقن من صواب هذه النتيجة عندما كانت تعود وفوده من القاهرة أو الدوحة ثم تسافر إليهما ثانية، ليقطع الطريق على اتهامه بالتشدد وخلق صورة معتدلة عن حماس، وقرر وضع شروطه على طاولة المحادثات، يمكن التعديل فيها وفقا للأجواء الإقليمية والدولية، وبلا تحول يشير إلى إجباره على تقديم تنازلات كبيرة.

رأت إسرائيل أن تحويل المفاوضات إلى عملية سياسية أفضل من سد كل المنافذ على عملية سوف تكون منتجة لها على المدى البعيد، فالطرف الفلسطيني من الصعوبة أن يصمد فترة طويلة، ويمكن أن يقدم على تصرفات توفر لنتنياهو ذرائع للتنصل من أي التزامات يقطعها على نفسه، وهي عملية مطاطة تنطوي على هامش كبير للمناورة في الداخل الذي يئن تحت وطأة الانقسامات، والخارج الذي أصبح مستنفرا ضد التمادي في العمليات العسكرية التي يقوم بها جيش الاحتلال وتوقع المزيد من الضحايا المدنيين في غزة.

تتخلى القيادات السياسية عن منهجها في الممانعة إذا تأكدت من تزايد خسائرها، وقد تضطر لتغيير تكتيكاتها في إطار الحفاظ على صلابتها، والتي تؤدي إلى النتائج ذاتها التي تقود إليها الأولى بصورة أقل خشونة وأخف وطأة في الخصومة.

وكما تفعل إسرائيل في التفاوض مع حماس مؤخرا، قررت تكرار التجربة مع الولايات المتحدة، فبعد إعلان تل أبيب تجميد سفر وفدها إلى واشنطن على إثر عدم استخدامها الفيتو لمنع تمرير قرار من مجلس الأمن يقضي بوقف فوري لإطلاق النار، عادت إسرائيل وقررت إرسال وفدها للتباحث مع الإدارة الأميركية حول عدد من القضايا المتعلقة باجتياح رفح وغيرها من الملفات الحيوية، بعد أن تيقن نتنياهو أن عدم إرسال الوفد والمماطلة مع واشنطن يمكن أن تكون لهما تداعيات وخيمة.

يهدف التراجع عن عدم إرسال الوفد إلى الاستماع للإدارة الأميركية عن كثب وعدم منح الفرصة لتوسيع الشروخ معها، خاصة أن الرئيس جو بايدن بدأ يضج من الضغوط التي تمارس عليه بسبب انحيازه السافر لإسرائيل، ما يؤدي أحيانا إلى تبني سياسات ليست في صالح نتنياهو، الذي رأى أن منهج “يفاوض ولا يفاوض” أداة جيدة في أجواء تتزايد فيها المواقف الرافضة لتوجهاته في الحرب على غزة واليوم التالي بعد وقفها.

يمنح تعاطي نتنياهو مع المحادثات التي تتعلق بالحرب وعدم مقاطعتها برهة من الوقت لإعادة ترتيب أوراقه، وهو يعلم آليات الهروب من محاولات تضييق الخناق عليه في لحظة معينة، فالاتفاقيات التي يمكن أن يتم التوصل إليها حافلة بالتفاصيل التي توفر له مساحة للتنصل منها لاحقا، ففي حالة حماس تملك القوات الإسرائيلية وجودا مكثفا على الأرض في غزة، وفي حالة الإدارة الأميركية لدى تل أبيب أيضا نفوذ ولوبيات بطول وعرض الولايات المتحدة يساعدانها على تحقيق أهدافها بليونة ومن دون الدخول في مناوشات أو صدامات مباشرة.

يريح لجوء نتنياهو إلى التجاوب الظاهر مع المفاوضات بدلا من مقاطعتها، الكثير من الدول التي ضجت من استمرار الحرب في قطاع غزة، ويمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها بدلا من استنزاف جهودها في ممارسة ضغوط معروفة نتائجها مسبقا، ويبتعد كل طرف عن مواجهة صدام لا يريده، كما يمتص المشهد العام الكثير من الارتدادات القاتمة، التي تتولد تلقائيا عن عدم وجود الأفق السياسي، وتدعم منهج المتشددين في المنطقة، وتزداد الحرائق فيها بما لا يقصرها على غزة أو جنوب لبنان.

قرأ رئيس حكومة الحرب جيدا اتجاه قوى غربية كبرى وبدأ يتماشى مع أهدافها تدريجيا ليُبقي على جزء معتبر من دعمها له، إذ شعر قادتها بالحرج في لقاءاتهم مع زعماء في المنطقة، وزاد الحرج في بعض العواصم الغربية مع اتساع رقعة التظاهرات والمطالبات بوضع حدود للحرب المستمرة في غزة.

وقرر نتنياهو خوض مفاوضات صعبة يستطيع من خلالها امتصاص غضب المجتمع الإسرائيلي الذي تتهمه طائفة منه بالتهاون في التعامل مع قضية الأسرى، وامتناعه عن عقد صفقة يعيد بها ما تبقى من المحتجزين على قيد الحياة، ولن يجد أفضل من ذهاب وعودة الوفود لتأكيد أنه عازم على استرداد الأسرى ودحض كل ما يتردد حول تفريطه فيهم، فالحرب لم تعد الوسيلة المثلى لإجبار حماس على إرجاعهم.

محمد أبوالفضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى