دولة الإحتلال

نتنياهو في واشنطن: دبلوماسية التعويض عن فشل الحرب

سالة للولايات المتحدة، توضح أن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، السياسي والعسكري مدين لوجود إسرائيل، واستمراره مرهون بتأييدها، وقدرتها على حشد حلفاء الولايات المتحدة

ما عجز نتنياهو عن تحقيقه بالحرب، يحاول الآن الحصول عليه بالدبلوماسية، بمساعدة خيبة الدبلوماسية العربية الرسمية، والمشاركة الأمريكية في الحرب على غزة وتحصين إسرائيل من القرارات الدولية. وقد تبخر الخلاف الأمريكي- الإسرائيلي بسرعة، بعد أن دخلت القوات الإسرائيلية رفح، وحصلت على ما أرادت من القنابل الثقيلة، لتضرب بها هناك وتحرق الناس والزرع والضرع والمنشآت تحت سمع وبصر العالم. والآن تجري الترتيبات الأخيرة لزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة بدعوة من الكونغرس وليس من البيت الأبيض. لكن هيئة أركان البيت الأبيض، في محاولة لإنقاذ ماء الوجه، اتفقت على ترتيب لقاء بين بايدن ونتنياهو في البيت الأبيض، قبل جلسة الكونغرس بيومين، لتلطيف الأجواء بين الطرفين، وتجنب حدوث صدام بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، أمام أعضاء الكونغرس، الذين سيحضرون الجلسة.

ومن المتوقع أن يقاطع كلمة نتنياهو عشرات النواب والشيوخ من الحزب الديمقراطي احتجاجا على الزيارة. وقد اعتبر كثير من أعضاء الكونغرس أن دعوة نتنياهو تمثل في جوهرها مكافأة له على تحدي السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط.
نتنياهو كان يأمل أن يذهب إلى واشنطن، ليعلن انتصاره من هناك، وقد حقق الهدف الأكبر من الحرب، وهو تدمير حماس، وإطلاق سراح من تبقى من المحتجزين، واستعادة جثامين من قتلوا أو ماتوا، لكن لا يلوح في الأفق أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، استطاع أن يحقق ذلك. كما أن الأهداف الأخرى للحرب المتعلقة بأمن الإسرائيليين ومستقبل غزة ذهبت أدراج الرياح.

وقد تلقى نتنياهو النصيحة من خبراء بارزين إسرائيليين وأمريكيين، منهم قيادات في جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) ومعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بأن يخفض هدف تدمير حماس إلى الاكتفاء باغتيال قيادتها الميدانية، وإضعاف قوتها العسكرية، مع التسليم بأن تدمير حماس عسكريا وإداريا يحتاج إلى عقود وليس إلى سنوات، وقد لا يتحقق. وربما يفسر ذلك لجوء القوات الإسرائيلية أخيرا إلى التركيز على شن هجمات مجنونة بعشرات الأطنان من القنابل والقذائف، في عمليات منتقاة، أملا في الفوز برؤوس قيادات المقاومة في قطاع غزة. هذا يعني عمليا أن خطاب نتنياهو أمام الكونغرس في الأسبوع المقبل، سيكون تعبيرا حقيقيا عن فشل إسرائيل وضعفها، وعجزها عن تحقيق انتصار على قوات منظمة صغيرة بعدد وعدة مقاتليها، أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعد واحدا من أقوى مؤسسات الحرب الدموية في العالم. ومع أن نتنياهو يكذب، ولا يعترف بأنه يكذب، ولا يخجل من ذلك، فإن موقفه أمام نواب وشيوخ الكونغرس الأمريكي لن يكون قويا، لأنه يذهب إليهم بمشروع لاستمرار الحرب، وليس لإنهائها، في وقت تبدو فيه الولايات المتحدة مهددة من الداخل ومن الخارج على السواء.

وكنت قد ذكرت في هذه الصحيفة في الأسبوع الماضي أن نتنياهو ليس راغبا في عقد صفقة لاستعادة بعض المحتجزين، مقابل مجرد وقف مؤقت للقتال، وأنه لا مصلحة له في ذلك. وعرضت على هذه الصفحة لاءاته السبعة حسبما استنتجت، التي يتحصن بها من الانتقادات، ويرغب في أن تتبناها الإدارة الأمريكية معه. وما زلت تماما عند قناعتي بأن نتنياهو عقبة رئيسية في طريق السلام، وأن الحرب في غزة لن تتوقف طالما بقي على رأس الحكومة الإسرائيلية، وأن رحيله سياسيا يمثل شرطا أوليا من شروط نجاح أي مفاوضات بشأن تسوية تؤدي إلى وقف الحرب في غزة، واستعادة المحتجزين، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وتأمين مستقبل أفضل لغزة يضمن الأمن والسلام لأهلها.

لاءات نتنياهو أو ما أسميها أيضا «شروط عصر السلام الإسرائيلي في الشرق الأوسط»، كما يريده اليمين الصهيوني الديني المتطرف وليس نتنياهو فقط، تتضمن: أولا، لا، لإنهاء الحرب في غزة قبل تدمير المقاومة الفلسطينية تماما. ثانيا، لا، لعودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة. ثالثا، لا، لإقامة دولة فلسطينية في أي صورة من الصور. رابعا، لا لإيران نووية. خامسا، لا لأي تنازلات مقابل التطبيع مع السعودية، وأن الرياض هي التي يجب أن تستجدي التطبيع مع تل أبيب. سادسا، لا، لعودة محور فيلادلفيا تحت السيادة المصرية. سابعا، لا لمنع السلاح عن إسرائيل أو فرض عقوبات عليها. ويريد نتنياهو حاليا تقسيم غزة، وعودة جماعات منتقاة من الفلسطينيين إلى شمالها تحت إشراف جهاز الأمن الداخلي وسلطة إدارة المناطق المحتلة، والسيطرة تماما على معبر رفح ومحور فيلادلفيا، مع توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وتمشيطها عسكريا كل يوم لقتل أي نفس للمقاومة هناك. وإضافة إلى لاءاته، فإن نتنياهو سينتهز فرصة كلمته أمام الكونغرس في توجيه رسائل مبطنة أو مباشرة، للرئيس الأمريكي، وللولايات المتحدة، ولدول الشرق الأوسط والعرب، والرأي العام العالمي. وذلك على النحو التالي:
أولا: رسالة للرئيس الأمريكي، مفادها أن إسرائيل هي التي تقرر، في ما يتعلق بأمنها، وفي علاقتها بالفلسطينيين والدول المجاورة. وعندما يكون هناك خلاف سياسي، أو عسكري بين واشنطن وتل أبيب، فيجب حله أولا في الأخيرة. الرئيس الأمريكي قال لا لاقتحام رفح، واقتحمتها إسرائيل رغما عن ذلك، مع أن واشنطن عمدت إلى تأخير شحنات أسلحة وذخائر ضرورية لتحقيق أهداف الحرب.

هذه الرسالة تنطوي على تهديد ضمني للرئيس الأمريكي الحالي، بأن بقاءه في البيت الأبيض هو رهن بموافقة اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة. وربما يلمح بأن هذا اللوبي هو الذي عاقب الديمقراطيين بعد أوباما، وجاء بالرئيس السابق ترامب، وأن ترامب قد يعود مرة أخرى. والحقيقة أن هناك الكثير من الشواهد على ذلك.

ثانيا: رسالة للولايات المتحدة، توضح أن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، السياسي والعسكري مدين لوجود إسرائيل، واستمراره مرهون بتأييدها، وقدرتها على حشد حلفاء الولايات المتحدة. وأن واشنطن في حاجة إلى التأييد الإسرائيلي لضمان ما تعتبره جزءا من أمنها القومي في الشرق الأوسط وحماية مصالحها فيه.

ثالثا: رسالة لدول وحكومات الشرق الأوسط والعرب، تضع النقاط فوق الحروف بأن القوة الإسرائيلية فوق الجميع، وأنه لا تراجع عن إنهاء القضية الفلسطينية وتصفيتها، وأن مشروع التطبيع مع السعودية قائم باتفاق بين البلدين، وليس منحة أو مكافأة تقدمها واشنطن إلى تل أبيب، وأن ما يحدث في غزة يمكن أن يتكرر مع أي بلد عربي. وأن لبنان هو البلد التالي على القائمة، ما لم يتم التوصل إلى حل دبلوماسي يبعد قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني ويوقف عملياته ضد إسرائيل. وإعادة التأكيد أن إيران هي عدو مشترك، يتعين مواجهته بحلف عسكري مشترك.

رابعا: رسالة إلى الفلسطينيين، تقطع الشك باليقين بأن إسرائيل لا تقبل بإقامة دولة فلسطينية، وأن اتفاقيات أوسلو ماتت، ولن تنشأ على بقاياها نسخة جديدة. وأن أقصى ما سيحصل عليه الفلسطينيون هو «إدارة ذاتية»، في إطار ترتيبات إدارية مستقلة في غزة عنها في الضفة الغربية، مع خضوع الضفة وقطاع غزة عسكريا، وحرية حركة القوات الإسرائيلية، ونزع السلاح تماما، وسيادة إسرائيل على كل حدود غزة، بما في ذلك معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وعلى كل حدود الضفة الغربية بما في ذلك غور الأردن.

خامسا: في مسألة المساعدات الإنسانية، توضح أن المساعدات لن تمر عبر الأونروا، ولن تمر عبر الولايات المتحدة، ولا عبر السلطة الوطنية الفلسطينية، وإنما ستمر عبر طريق واحد هو إسرائيل، التي ستكون لها السيطرة على كل حدود القطاع، برا وبحرا وجوا. ومن الواضح أن الولايات المتحدة فشلت في محاولة إقامة طريق بحري مستقل تحت إشرافها من قبرص إلى غزة لهذا الغرض، وقد تخلت عن المشروع. ومع أن تقديم المساعدات إلى وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين لم يتوقف تماما، فإن إسرائيل تعتبر وجود الأونروا من مقومات تعزيز بقاء الهوية الفلسطينية يجب تدميرها تماما.

سادسا: رسالة للعالم تعلمه أن الرأي العام المتضامن مع المقاومة الفلسطينية يمثل وجها من أوجه العداء للسامية، وأن العالم يجب أن يعالج نفسه من هذا المرض. ومن المرجح أن اللقاءات التي سيعقدها نتنياهو في واشنطن مع قيادات اللوبي الإسرائيلي ستتناول الكثير في هذا الموضوع، وكذلك في موضوع الانتخابات الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

هذه الرسائل إضافة إلى اللاءات التي ذكرناها، تمثل حزمة دبلوماسية متكاملة، يعمل نتنياهو على ترويجها، بحيث تكون أساسا لتفاهمات وسياسات مشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما في الفترة المقبلة، سواء بقى بايدن في البيت الأبيض أو جاء ترامب، ففي أي من الحالتين، يجب أن يبقى التأييد الأمريكي لإسرائيل مثل الفولاذ، حتى من دون توقيع اتفاقية دفاعية رسمية بين البلدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى