أفريقيا

مُحفّزات روسيا لإنشاء قاعدة عسكرية في إفريقيا الوسطى

اكتمال القاعدة يعني قدرة الأفارقة على عقد شراكات عسكرية وصفقات أسلحة والاستفادة من الخدمات الأمنية والعسكرية من حليف جديد موثوق فيه -روسيا

تدخل تحركات روسيا لإنشاء قواعد عسكرية ضمن مقاربتها لحماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، ولتأمين مكانتها الدولية ولمناوئة منافسيها التقليديين الغربيين وفق ما أكَّدته قواعدها العسكرية في أبخازيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وترانسنيستريا وطاجيكستان وأوسيتيا الجنوبية، وسوريا، أو على نحوٍ أثارته النقاشات والمداولات الأكاديمية والسياسية حول مخططاتها أو نواياها لإقامة قواعد عسكرية داخل القارة الإفريقية في ليبيا والسودان والنيجر وبوركينا فاسو وموزمبيق وإفريقيا الوسطى. وفي الأخيرة، أذاعت التصريحات الرسمية الروسية خبر عملياتها التفاوضية والتحضيرية لإقامة قاعدة عسكرية، لعل أحدثها ما ورد على لسان السفير الروسي لدى جمهورية إفريقيا الوسطى “ألكسندر بيكانتوف” من تصريحات متعددة أيام 30 يونيو و26 مارس و24 يناير 2024م.

ترحيب تام:

في إفريقيا الوسطى، لا تثير تلك التصريحات أيّ استغراب، أو نفي مِن قِبَل المسؤولين، وإنما تُقابَل كعاداتها بترحيبات واسعة، بل تلبّي نداءات وطموحات المسؤولين منذ 2019م، ولعل أحدثها ما ورد على لسان فيديل نغوانديكا -مستشار الرئاسة لجمهورية إفريقيا الوسطى-، والذي أكد تخصيص بلاده منطقة بيرينغو، على بُعْد 80 كلم غربي العاصمة بانغي كمقر للقاعدة الروسية، قائلاً: “نودّ أن تبني روسيا قاعدة لها في إفريقيا الوسطى، وقد خصَّصت الحكومة قطعة أرض لذلك في منطقة… وإن البنية التحتية القائمة في بيرينغو تسمح بنشر نحو 10 آلاف عسكري”. وقال: “إن الغرض من الوجود العسكري الروسي في جمهورية إفريقيا الوسطى هو تدريب جنودنا. ونحن ملتزمون تمامًا بالعلاقات مع روسيا، ونعتقد أن روسيا يجب أن تبقى معنا. وإذا تخلَّت عنا روسيا اليوم فسوف نصبح فريسة للدول الغربية التي لم تفعل شيئًا لبلدنا منذ استقلالنا”

وكذا ما ورد على لسان “فيليكس مولوا” -رئيس وزراء جمهورية إفريقيا الوسطى”-، في 12 مارس 2024م؛ حيث قال: “المناقشات مستمرة. على أيّ حال، النية موجودة، وقد تم التعبير عنها. بالتأكيد، المناقشات مستمرة من أجل الوصول إلى موقف ترغب جمهورية إفريقيا الوسطى في الوصول إليه في علاقاتنا المتبادلة.

وكذلك ما تكرَّر على لسان “فوستان أرشانج تواديرا” -رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى–  في يوم 20 أبريل 2024م عندما صرَّح علنًا أن بلاده تدرس إمكانية إقامة قاعدة عسكرية روسية في المنطقة الشرقية من البلاد. وقال: “أعتقد أن المنطقة الشرقية قادرة على خدمة هذا الغرض؛ نظرًا لضخامة مساحتها، وبُعْدها، ووجود العديد من القوى المعادية فيها. وهذا من شأنه أن يساعد في حماية حدودنا ودعم قواتنا وضمان الأمن في تلك المناطق”.

تلاقي مصالح الطرفين:

ولا شكَّ أن ترحيبات إفريقيا الوسطى ليست من قبيل الصدفة، أو تأتي من فراغ؛ بل تستمدّ مضمونها من النتائج الرابحة لشراكاتها العسكرية مع روسيا منذ 2018م، والتي أمَّنت لها المساعدات الأمنية واللوجستية والاستخباراتية، وأمدَّتها بما يقارب 1890 خبيرًا روسيًّا، اعتبارًا من فبراير 2022م، وقدَّمت لها تدريبًا أكثر من 10.000 جندي.

الأمر الذي مكَّنها من السيطرة على المليشيات المسلحة، واستعادة السيطرة على 95% من الأراضي، وسمحت لها بالوصول إلى أماكن كانت لا تصل إليها، واستعادت سيطرتها على المناطق الواقعة على الشريط الصخري الأحمر للطريق الحدودي مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وحتى حدود جنوب السودان في مايو 2024م.

الديناميات الحاكمة للتحركات الروسية لإنشاء القاعدة:

وبالنظر إلى سياقات إفريقيا الوسطى ومتغيراتها: الجغرافية والسياسية والأمنية والاقتصادية، وبملاحظة شراكتها متسارعة الوتيرة على كافة الأصعدة، يمكن الوقوف على حزمة من الديناميات الحاكمة للتحركات الروسية لإنشاء تلك القاعدة، ويمكن تقديرها كما يلي:

1- التموضع الإستراتيجي:

لا يكتمل نصاب الحديث عن مُحفّزات روسيا لإقامة قاعدتها في إفريقيا الوسطى دون الإشارة إلى الأبعاد الجغرافية والجيوإستراتيجية للقاعدة؛ فهي تؤمن بموقعها الإستراتيجي في المنطقة الشرقية في “بيرينغو” قدرة روسيا على إجراء عمليات استطلاعية واستخباراتية ومراقبة كل ما يحدث في غرب وشرق ووسط وشمال وجنوب القارة؛ نظرًا لوقوعها على مسافة متساوية تقريبًا بين الشمال والجنوب وبسرعة أكبر من الشرق إلى الجنوب وبمسافات جغرافية مُقدَّرة بين بانغي وجوهانسبرغ، وبين بانغي وطرابلس وبين وبانغي وجيبوتي بنحو 3540 كم، و3220 كم و2830 كم على التوالي.

2- الانتشار والوصول السريع:

تضمن تجليات القاعدة الجغرافية لروسيا إمكانية الوصول السريع لأكثر النقاط الساخنة في القارة الإفريقية حال استخدام مقاتلات الطيران فرط الصوتية، وتتيح لها الانتشار داخل نطاقات القارة الخمسة، وتسمح لها بامتلاك نقطة تموين وإمداد جديدة، تستوعب ما يقارب 10.000 جندي، تخدم بصورة مباشرة تحركات “الفيلق الإفريقي” في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ولا يبدو ذلك غريبًا عند الإشارة إلى كون إفريقيا الوسطى أحد النطاقات الجغرافية المحددة لانتشار الفيلق الإفريقي.

3- تثبيت أقدام:

لا تختلف تحركات روسيا لإنشاء تلك القاعدة عن نظيراتها لإنشاء قواعد أخرى على البحر الأحمر أو البحر المتوسط، بل تأتي مُكمّلة لها؛ حيث تسعى روسيا من ورائها لتثبيت أقدامها في غرب ووسط القارة الإفريقية، أو على الأقل تأتي تلك التحركات بديلة عنها حال تعثر تلك المشروعات والخطط على غرار ما لحق بخطتها لإنشاء قاعدة عسكرية في السودان، والتي تعثرت عقب الإطاحة بنظام عمر البشير في 2019م لحين ترتيب الأوضاع الأمنية والسياسية، ولم تشهد توقيعًا لأيّ اتفاقية نهائية حتى الآن.

4- ملء الفراغ ومزاحمة المنافسين:

لا تخلو اتجاهات روسيا لإنشاء تلك القاعدة من الديناميات والمحفّزات السياسية؛ إذ تمثل القاعدة لها بوابة اختراق لقلب ووسط القارة بشكلٍ يُمكّنها من ملء الفراغات والثغرات التي يتركها منافسوها الغربيون التقليديون في الوسط والغرب الإفريقي، ويضمن لها القدرة على مزاحمتهم في نطاقات نفوذها التقليدية بشكل يلحقهم بمزيد من الانتكاسات والانسحابات القسرية، ويجلب لروسيا حلفاء جددًا من الأفارقة الذين يُشكّلون أكبر كتلة تصويتية في الأمم المتحدة، والذين من شأنهم كسر العزلة الغربية المفروضة على روسيا.

5- تعظيم العوائد الأمنية:

تُمثّل العوائد الأمنية من وراء القواعد العسكرية أحد المحركات والمحفّزات الروسية لإنشائها، وتتعاظم تلك العوائد في إفريقيا الوسطى التي تُعدّ جزءًا أساسيًّا حاضرًا داخل المقاربة الروسية وشريكًا إستراتيجيًّا موثوقًا منذ 2018م وملجأ مواتيًا للشركاء الروس “فاغنر”، وأيضًا جزءًا من نطاقات الفيلق الروسي؛ مما يحفّز روسيا لإقامة قاعدتها هناك، ومِن ثَم، يمكن لتلك القاعدة خدمة مساعي روسيا للانخراط في المعادلة الأمنية للقارة الإفريقية والمساهمة في صياغة الترتيبات الأمنية لغرب إفريقيا، وإنشاء الحزام العسكري الروسي الذي يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.

6- مد الشراكات العسكرية:

تبرز المكاسب والشراكات العسكرية كأحد المحفزات الروسية لإنشاء تلك القاعدة؛ لما قد تمثله من جسر، تنقل من خلالها روسيا الشراكات العسكرية والخدمات الأمنية والتدريبية والاستخباراتية والصادرات التسليحية للقارة الإفريقية، والتي تأتي كثاني مستورد للأسلحة الروسية بعد آسيا، ومن أهم تلك الدول: “الجزائر، ونيجيريا، وأنغولا، والسودان، والكاميرون، والسنغال، وموزمبيق والجزائر، ومصر، بل وتعد روسيا المورد الرئيسي للأسلحة إلى إفريقيا، ففي الفترة ما بين 2017- 2021م، كانت روسيا مصدرًا لما يقارب 44% من الأسلحة المباعة في إفريقيا.

7- تعزيز المكاسب الاقتصادية:

بداهة لا تقل المكاسب الاقتصادية عن كونها إحدى الديناميات المحفّزة للتحركات الروسية، ويبدو ذلك في ثلاثة مقامات؛ إذ تزيد تلك التحركات في المقام الأول كلما تعمق الفهم والاتجاه الروسي لمقدرات القارة الإفريقية الاقتصادية، وخاصة إفريقيا الوسطى، والتي تحظى بصفة خاصة بثروات معدنية كالذهب، الماس، اليورانيوم، الحديد والنفط والمطاط والخشب والقهوة والمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية، وأيضًا تتحفز مع الطموحات الروسية لتعظيم الاستثمارات والشراكات التجارية الضعيفة نسبيًّا عند مقارنتها بالصين أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار القاعدة الأرضية الملائمة لعقد شراكات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية على غرار شراكاتها بشأن التعاون في تكنولوجيا الطاقة النووية السلمية سواء التي وقَّعتها مع بوركينا فاسو في أكتوبر 2023م، أو التي هي قيد التفاوض والنقاشات مع تشاد، وقد تبلغ تلك التحركات أشدها في المقام الثالث مع مساعي روسيا للوصول إلى الموارد والمعادن في إفريقيا الوسطى ومقايضاتها بالمساعدات والخدمات الأمنية.

وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كثرة التصريحات الرسمية وغير الرسمية بشأن تلك القاعدة، إلا أنها حتى الآن لم تتعدَّ كونها إثارة جدل وترويج إعلامي، ولم توضح أيّ تفاصيل زمنية ومكانية محددة لها؛ فقد أشار السفير الروسي لدى جمهورية إفريقيا الوسطى “ألكسندر بيكانتوف” قائلاً: إن روسيا وجمهورية إفريقيا الوسطى تواصلان المفاوضات بشأن إنشاء قاعدة عسكرية روسية… لكن هذه القضية ليست في مرحلة نشطة. ولا توجد مناقشة جوهرية حول توقيت ومكان نشرها، فضلاً عن عدد القوات العسكرية”.

بيد أنه يمكن القول: إن حال بقاء المحفزات والتحركات الروسية لإنشائها، قد تُفضي بدورها لمجموعة من تأثيرات وانعكاسات مؤكدة ومتعددة المستويات والأبعاد على الأصعدة: الروسية والغربية والإفريقية.

فبالنسبة للروس، يعني اكتمال القاعدة قدرة روسيا على جني ثمار القاعدة العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، وتحديدًا مزاحمة الغرب والتموضع الإستراتيجي والانتشار السريع ومدّ الشراكات العسكرية والوصول للمعادن، والاستفادة منها لإنشاء حزامها العسكري من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.

أما بالنسبة للغرب، فيعني إنشاء القاعدة أو محاولة إنشائها تهديدًا صريحًا لمصالحهم ونطاقات نفوذهم التقليدية، وقد يدفع ذلك –بكل تأكيد- إلى تسارع وتيرة التدافع الدولي والتنافس بين الروس والغرب في القارة الإفريقية، الأمر الذي قد يصل حدّ الصراع على القواعد العسكرية، والبحث عن مواطئ قدم على غرار النهج الواضح في الغرب الإفريقي؛ حيث لم تكد الانسحابات الأمريكية من النيجر أو الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو أو إفريقيا الوسطى ذاتها أن تتم، حتى ولجت إليها الأقدام الروسية.

 أما بالنسبة للأفارقة، فإن اكتمال القاعدة يعني قدرة الأفارقة على عقد شراكات عسكرية وصفقات أسلحة والاستفادة من الخدمات الأمنية والعسكرية من حليف جديد موثوق فيه -روسيا-، يتبع مقاربات تصالحية وغير مشروطة بإصلاحات حقوقية أو ديمقراطية وغير معنية بشكل وبنوعية طريقة تداول السلطة والحكم، وأيضًا يقدم نفسه بديلاً جذابًا ذا تأثير في السياسة الدولية وعضوًا دائمًا في مجلس الأمن الدولي وقادرًا على توظيف حق النقض (الفيتو) لمصلحة الدول الإفريقية، وبالأخص الخاضعة للعقوبات الغربية، أو تلك التي تحتاج لبعض أشكال الدعم العسكري والأمني لمواجهة تنامي نشاط الحركات المسلحة “موزمبيق، مالي، الكونغو، بوركينا فاسو”.

وقد يضمن ذلك للأفارقة -بما في ذلك إفريقيا الوسطى- تفوقًا نسبيًّا أمام الجماعات المسلحة، ويسمح لها بتسجيل وإحراز تقدمات أمنية في مواجهة انعدام الأمن ومكافحة الإرهاب، وقد يترتب عليه أيضًا مزيد من التبعية الإفريقية للروس وانتقالها بشكل أو بأخرى من الغرب لروسيا، ويُقوّض -بداهةً- أيّ جهود أو فرص لتكريس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى