ميناء بايدن العائم.. الخلفيات والأهداف
جملة من التساؤلات حول الخطوة الأمريكية في إنشاء الميناء العائم، يقع في أولها، هل الولايات المتحدة ذات النفوذ الدولي الكبير كقطب أوحد في العالم لا تستطيع أن تفرض مشيئتها على الكيانٍ في وقف العدوان، هي صاحبة الفضل عليه في استمراره حتى اليوم؟
أثار قرار الرئيس الأمريكي بإنشاء ميناء عائم على شاطئ قطاع غزة ضجة واسعة في الأوساط السياسية والإعلامية لجهة خلفياته وأهدافه. ولكن وقبل الذهاب للحديث في تشريح حقيقة القرار الأمريكي بخلفياته وأهدافه، الذي جاء في خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس “جو بايدن” في الثالث من أذار الجاري، في قوله: “لقد وجهت الجيش الأمريكي لقيادة مهمّة طارئة لإنشاء رصيف عائم على شاطئ غزة، لاستقبال السفن التي تحمل الغذاء والماء والدواء والملاجئ المؤقّتة”.
هذا القرار ليس جديداً بل في الأصل هو مشروع الرئيس الأمريكي السابق والمرشح والمنافس الحالي للرئاسة الأمريكية “دونالد ترامب”، الذي في العام 2017 أرسل وفداً إلى كيان الاحتلال الصهيوني، مهمته مناقشة خطة وزير مواصلات العدو “يسرائيل كاتس” حول إقامة “ميناء بحري عائم” في قطاع غزة، يرتبط بميناء نيقوسيا في قبرص بإدارة قوات دولية ومراقبة حكومة الكيان. مقابل شرطين، الأول انشاء خط سكه حديد من حيفا إلى الأردن والسعودية. والثاني تامين نزع سلاح المقاومة في قطاع غزة كمدخل قبل بدء المشروع.
ومع بدء حرب الإبادة الصهيونية ضد قطاع غزة، أحيا رئيس حكومة كيان العدو “نتنياهو” المشروع على أنه مشروع أمريكي، وما يؤكد ذلك مُسارعة الترحيب الصهيوني بالقرار الأمريكي. وفي انتهاز الفرص أحيا نتنياهو أيضاً ما كان الكيان الصهيوني يعمل عليه بعد اتفاقات “أوسلو” العام 1993، وهو إلغاء الأونروا الشاهد الحي على نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948.
جملة من التساؤلات حول الخطوة الأمريكية في إنشاء الميناء العائم، يقع في أولها، هل الولايات المتحدة ذات النفوذ الدولي الكبير كقطب أوحد في العالم لا تستطيع أن تفرض مشيئتها على الكيانٍ في وقف العدوان، هي صاحبة الفضل عليه في استمراره حتى اليوم؟، ولكن طالما أنها هي شريكة في حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ خمسة شهور وحتى الآن، وتستخدم حق النقض الفيتو لحمايته ودفعه في استمرار حربه العدوانية، فهي بذلك تمارس الكذب جهاراً نهاراً. وثانيها، طالما هي حريصة على إيصال المساعدات إلى قطاع غزة. لماذا لا تذهب إلى مجلس الأمن وهناك تفرض قراراً ملزماً على الكيان بفتح المعابر لإدخال تلك المساعدات؟
القرار الأمريكي يجب ألاّ يخدعنّا أحد أنّه جاء من خلفية إنسانية لما يعانيه القطاع بأهله وناسه من حرب إبادة جماعية، فضحايا الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من دول العالم هي بالملايين من الأبرياء، سواء في فيتنام وأفغانستان، أو في العراق وسوريا وفلسطين، أو في كوريا واليابان وغيرهم. وقبلهم عشرات الملايين من الهنود الحمر في حرب التطهير العرقي الموصوفة في أمريكا ذاتها. وإدارة الرئيس الأمريكي “بايدن”، إذا كانت المسألة تتعلق بالنواحي الإنسانية حسب زعمها، فلا داعي لهذه الخطوة الالتفافية، وعليها أن تذهب إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار بوقف العدوان وفتح المعابر وإدخال المساعدات من دون إبطاء. لا أن تلجأ إلى إجهاض المساعي الدولية من خلال استخدامها حق النقض الفيتو، في اشارة واضحة بتجديد المُهل الممنوحة من قبلها لكيان العدو الصهيوني الاستمرار بعدوانه على شعبنا في قطاع غزة.
وهذا ما يُعدُّ مفارقة وقحة تمارسها دولة عظمى حين تمد الكيان بكل أنواع الأسلحة لقتل أهلنا، وبين ادعائها بأنّ قرارها بخلفية إنسانية وهي منها براء.
القرار الأمريكي ينطوي على كثيرٍ من المخاطر التي لابد من التوقف ملياً عندها، فالخلفيات والأهداف التي تقف وراء هذا القرار بتقديري وبالاستناد إلى فهم الطبيعة الأمريكية المدفوعة بشهوة التسلط والاستبداد والهيمنة والسيطرة على مقدرات وثروات شعوب العالم، هي تذهب إلى تحقيق مصالحها وحمايتها بغض النظر عن الوسائل والأساليب بما فيها الغير قانونية والمتجاوزة لكل المحرمات بما فيها القوانين والمؤسسات الدولية. والشواهد لا تُعد ولا تُحصى في سياق التأكيد على الطبيعة العدوانية والغطرسة الأمريكية عندما يتعلق الأمر بتهديد مصالحها ومصلحة مشروعها الأساس في المنطقة، بل في العالم الكيان الصهيوني دون سواه.
في الخلفيات، أولاً… مع اتساع التظاهرات الغاضبة والمُنددة التي تعم الكثير من دول العالم وخصوصاً في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، رفضاً لحرب الإبادة الجماعية التي ينفذها كيان الاحتلال الصهيوني وجيشه المجرم ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. حيث تعالت الأصوات التي تحمل إدارة الرئيس “بايدن” المسؤولية الأولى عن تلك الحرب بما وفرته من آلة القتل تسليحاً وذخيرةً منذ ما يزيد عن خمسة شهور. وهو ما عبّر عنه المناهضون للحرب خلال اعتراضهم موكبه وهو في طريقه لإلقاء خطابه أمام الكونغرس، رافعين يافطات داخل قاعة الكونغرس تؤكد أنّ إرث بايدن هو “الإبادة الجماعية”.
الاحتجاجات داخل أمريكا اتخذت طابعاً مختلفاً عن باقي الدول مع دخول الاستحقاق الانتخابي الأمريكي للوصول للبيت الأبيض في ولاية رئاسية ثانية. حيث بدأ الرئيس “بايدن” وحزبه الديمقراطي يستشعرون ما يتهدد مصيرهم الانتخابي، فقد أظهرت الانتخابات التمهيدية توسع في دائرة الاحتجاجات في ولايات أمريكية رداً على سياسة الدعم الأعمى للكيان الصهيوني في حربه الإجرامية، الأمر الذي انعكس بوضوح على نسبة التأييد وخاصة في ولايتي متشغان وبنسلفانيا ذات الأغلبية الإسلامية والعربية. حيث أكد أكثر عن مائة ألف بأنهم غير ملزمين التصويت للرئيس “بايدن”، الذي جاءت خطوة اتخاذه قرار الميناء العائم، من خلفية محاولة تهدئة الشارع الأمريكي، بحسب ما رأى المحلل الصهيوني “رون بن يشاي”، أنّ إدارة بايدن “في حاجة ماسة إلى إرضاء ناخبي الحزب الديمقراطي والمسلمين والداعمين للفلسطينيين، وتريد أن تُظهر لهم أن الولايات المتحدة تُدخل مساعدات إلى القطاع، وبهذه الطريقة ستتحسن صورة بايدن في أنظار الناخبين الشبان من التيار التقدمي في حزبه”.
أما ثانياً… الإدارة الأمريكية تُقدر أنّ قرار مشروع الميناء العائم سيتيح لها وللعدو الصهيوني فرصة عملية في القضاء على سلطة حكومة حماس المدنية، من خلال تحكمها والكيان في توزيع المساعدات على سكان القطاع. وهذا ما ذهب إليه المحلل الصهيوني “رون بن يشاي” في قوله: “وجود رصيف أمام الشواطئ الشمالية للقطاع، حيث تسيطر إسرائيل، سيضمن وصول المساعدات مباشرة إلى منظمات الغوث العالمية داخل القطاع، بهدف القضاء على سلطة حكومة حركة حماس المدنية في قطاع غزة وإضعاف علاقاتها بحاضنتها الشعبية”.
وثالثاً… تعتقد الإدارة الأمريكية أنّ الميناء العائم سيحقق الهدف الذي يلهث ورائه الكيان لإغلاق الحدود مع مصر بصورة كاملة. حيث يسعون إلى عزل قطاع غزة عن حدودها المصرية، وبذلك تفقد المقاومة طريق إمدادها عبر الحدود مع مصر، وتحقيق الحصار الشامل وبغطاء إنساني، عبر تقطيع اوصال قطاع غزة، وترتيب أولويات توزيع سكانه، من خلال شق طرق تفصل منطقة شمال القطاع عن جنوبه وصولاً الى البحر المتوسط، وبما يوفر السيطرة الكاملة لكيان الاحتلال الصهيوني على سائر المعابر بمداخله ومخارجه، وبذلك يتم فك العلاقة بين القطاع ومصر جغرافياً بعد إغلاق معبر رفح الحدودي. الأمر الذي سيؤدي إلى تهميش التأثير المصري سياسياً ولربما اقتصادياً.
وأما رابعاً… إنشاء الميناء العائم وبدء دخول المساعدات “الإنسانية”، قرار لن يعارضه أحد، وسيجد ترحيبا من العديد غي دول العالم. وهنا ستظهر الولايات المتحدة وإدارتها على أنها دولة تتمتع بأخلاق “إنسانية” ويظهرها على أنها حامية حقوق الإنسان. فهي قد تدخلت في اللحظة المناسبة كمنقذ للجوعى من أهالي قطاع غزة أولاً، وفرضت رأيها على حكومة نتنياهو الفاشية ثانياً، وبذلك تعتقد واهمة أنها تنأى بنفسها من تهمة مشاركتها مع كيان العدو الصهيوني في جرائم إبادة الشعب الفلسطيني والسعي إلى التطهير العرقي.
وخامساً… وجود جنود أميركيين قرب شاطئ قطاع غزة من دون أن تكون هناك قوات على الأرض، من شأنه أن يُمهد لها دوراً سياسياً أمنيّاً في مرحلة ما بعد الحرب. وبما يتيح لها حماية كيانها الوظيفي والمصطنع، وممارسة الضغط على المقاومة بهدف تقديم تنازلات في المفاوضات المتنقلة بين باريس والقاهرة والدوحة ولربما في أماكن لم يتم الإفصاح عنها، وهو مالم يتحقق حتى كتابة هذه السطور. وليس بعيداً عن الخطط الأمريكية، في حال توسعت الحرب إلى حرب إقليمية، الميناء العائم سيتم استخدامه لأغراض عسكرية حربية.
فأما سادساً… الميناء العائم تسعى من ورائه أمريكا إلى إخراج من تهمة التواطؤ مع حكومة كيان العدو في ارتكاب الجرائم خلال العدوان على القطاع. ولكن الحقيقة هي شريك كامل المسؤولية عن كلّ الضحايا الذين سقطوا من الشهداء والجرحى والمفقودين، فهي المموّل والمسلح والمشجّع للحرب، وهي تمنع وقف إطلاق النار.
وفي الأهداف التي يخفيها قرار إنشاء الميناء العائم، أولاً… الميناء العائم يحقق للولايات المتحدة الربط بين وجودها وبين جملة المشاريع الاقتصادية والمتعلقة بالسياحة في شرق البحر المتوسط. على غرارِ مشروع رأس الحكمة بين أبو ظبي ومصر، والذي ستبلغ كلفته عشرات المليارات من الدولارات.
وثانياً… وضع اليد على المنطقة الاقتصادية الفلسطينية الخالصة، من خلال التنقيب عن الغاز، والذي تُقدر كمياته ب 35 مليار متر مكعب. تطمع الشركات الأمريكية الاستثمار فيها بعد السيطرة عليها، من خلفية أنّ تلك الشركات قد دفعت الجزء الأكبر من تكاليف الحرب على القطاع.
أما ثالثاً… وفي موضوع لا يقل خطورة، والمتمثل في شق قناة “بن غوريون” في منطقة شمال قطاع غزة والذي يختصر ويوفر وجودها في تلك المنطقة الكثير من المسافات والتكاليف المالية.
وبذلك تكون الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني الغاصب قد حققوا مشروع السكك الحديدية التي أقرت في قمة العشرين في الهند قبل معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين أول أكتوبر من العام 2023 بفترة قصيرة. والتي سيتم إنشاؤها من الهند مروراً بالسعودية والخليج والأردن وصولاً للكيان الصهيوني. وهو المشروع الذي سيكون في مواجهة طريق الحزام والطريق الصيني. وبذلك يتم تأمين إعادة تموضعها الجيو استراتيجي الذي من شأنه محاصرة التحالف الروسي الصيني والإيراني من غرب آسيا وحتى البحر الأبيض المتوسط.
وأما رابعاً… العمل على إيجاد بيئة تمهد لتنفيذ ما سمي ب “التهجير الطوعي” لسكان قطاع غزة، بعد فشل الإدارة الأمريكية في تليين الموقف المصري الرافض حتى الآن التجاوب مع المطلب الأمريكي، السماح بفتح المعبر أمام سكان القطاع بهدف تهجيرهم إلى سيناء. لذلك تعتقد الإدارة الأمريكية أنّ وجود الميناء العائم وتحت الظروف الإنسانية الضاغطة لسكان القطاع، واستمرار الحصار الخانق والقصف الوحشي، ومواصلة ارتكاب العدو الصهيوني للمجازر اليومية، من شأنه دفع أهالي القطاع لطلب مغادرته طوعاً، بما يُحقق للكيان فرصة يريد قادة العدو توظيفها في التخلص من الخطر الديموغرافي الفلسطيني. وهذا ما كان قد أُعلن عنه كأحدِ أهدافهم في الحرب على قطاع غزة.
وختاماً، فالمدير التنفيذي لمنظمة أطباء بلا حدود في الولايات المتحدة السيد “أفريل بينوا”، يُلخص المشروع الأمريكي في إنشاء ميناء عائم في قطاع غزة في القول “أنه ستار من دخان، وهو يحجب المشكلة الحقيقية، المتمثلة في قصف الجيش الإسرائيلي العشوائي وغير المتناسب وحصاره العقابي. وأنّ الغذاء والماء والإمدادات الطبية التي يحتاجها سكان غزة بشدة موجودة عبر الحدود مباشرة”.
وهذا ما أكد عليه أستاذ القانون اللبناني الكندي وخبير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مجال الأمن الغذائي العالمي السيد “مايكل فخري”، الذي وصف سياسة المساعدات الأميركية بأنها “عبثية، طالما استمرت المساعدات العسكرية لإسرائيل”.