إذ تستعد رئيسة الحكومة الإيطالية جيورجيا ميلوني لتأدية ثالث زيارة لها لتونس خلال بضعة أشهر، فإنها تثير تساؤلات عما يمكن أن تحققه هذه المرة أكثر من المرات السابقة، وما يمكن أن تجنيه تونس من زياراتها المتكررة.
يسود الاعتقاد أن ميلوني ترغب هذه المرة، أكثر من أي وقت مضى، في إعطاء الانطباع بأنها تسعى جدياً لإيجاد حل عاجل لمشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين نحو شواطئ بلادها.
تحولت المشكلة إلى رهان سياسي بالنسبة إليها، إذ إن تسارع نسق تدفق هؤلاء المهاجرين خلال الفترة الأخيرة انطلاقاً من شمال أفريقيا، ومن تونس بالذات، يحدث في الوقت الذي تسعى فيه القوى السياسية في أوروبا، وبخاصة أقصى اليمين، لتوظيف ورقة الهجرة قبل أسابيع من الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
حاولت ميلوني إلى حد الآن أن تلعب دوراً ريادياً في معالجة هذا الملف الشائك، لكنها اضطرت خلال الأشهر الأخيرة للإقرار بـ”خيبة أملها” تجاه النتائج المتواضعة التي حققتها حكومتها في معالجة هذه “المشكلة المعقدة”.
وقالت صحيفة “كورييري ديلا سيرا” الإيطالية قبل أيام قليلة إن موضوع الهجرة غير الشرعية أصبح يشكل تحدياً سياسياً جدياً لميلوني، إذ هو يضرب صدقيتها قبل أسابيع من السباق البرلماني الأوروبي، وذلك على وجه التأكيد، ما دفعها للتحول إلى تونس.
لم يبلغ تدفق المهاجرين نحو أوروبا بعدُ النسق المرتفع الذي كان قد بلغه بين سنتي 2014 و2016، ولكن الإيطاليين منزعجون جداً مما يرونه وزراً ثقيلاً تتحمله بلادهم دون غيرها في أوروبا. وتقول أرقام وزارة الداخلية الإيطالية إن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين بلغوا سواحل إيطاليا سنة 2023 تجاوز 155 ألف مهاجر، أي بزيادة 50 في المئة عن سنة 202، بينهم 17 ألفاً من القاصرين.
وتقول المصادر الإيطالية إن السواحل التونسية أصبحت سنة 2023 المنطلق الرئيسي لموجات الهجرة غير الشرعية نحو إيطاليا، وإن كانت نسبة التونسيين من بين هؤلاء المهاجرين قد تقلصت تقلصاً واضحاً، وأصبح مواطنو بلدان أفريقيا جنوب الصحراء يشكلون الأغلبية ضمن الموجات البشرية المتدافعة نحو الشواطئ الإيطالية. وتقول الأرقام إن من جملة 97 ألف مهاجر غير شرعي وصلوا إلى الجنوب الإيطالي، كان هناك حوالي 17 ألف تونسي، أي 18 في المئة تقريباً من العدد الإجمالي للمهاجرين.
وصلت هذه الأفواج إلى جنوب إيطاليا رغم أن السلطات التونسية تواصل جهودها من أجل التصدي للمهربين والمهاجرين غير النظاميين. فقد منعت السنة الماضية إبحار حوالي 80 ألف شخص (من بينهم تقريباً 20 في المئة فقط من التونسيين والتونسيات). وبالمقارنة فقد كان وصل إلى إيطاليا انطلاقاً من السواحل التونسية سنة 2022 حوالي 32 ألف مهاجر غير شرعي من بينهم 18 ألف تونسي، أي أكثر من النصف.
يقول الخبراء إن الأرقام تحوّل تونس إلى نقطة عبور رئيسية لأفارقة جنوب الصحراء نحو أوروبا. وذلك نتيجة لجملة من العوامل الكثير منها يخرج إلى حد كبير عن نطاق تونس التي قد تجد نفسها رغم ذلك مضطرة لتحمل تبعات المشكلة لمدة غير قصيرة. ولن تكون المساعدة الإيطالية أو الأوروبية الرامية لتعزيز إمكانات الحرس البحري التونسي كافية وحدها لدرء هذه التبعات.
أول العوامل هو عجز أوروبا والغرب عن معالجة مشكلة تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في عدد من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، بما يجعل السكان هناك يشعرون بأن خلاصهم يكمن في التوجه شمالاً ومحاولة العبور إلى إيطاليا.
أصبح العديد من بلدان جنوب الصحراء طاردة لأهلها مع تواتر الانقلابات غرب القارة، واحتدام الصراع على النفوذ بين القوى العظمى واستمرار النزاعات المسلحة، ومن بينها هجومات التنظيمات المتطرفة والحروب الأهلية مثل الحرب في السودان.
في هذا الصدد نبّه المفوض الأممي للاجئين فيليبو غراندي الأسبوع الماضي إلى تزايد عدد اللاجئين السودانيين الذين يحاولون الوصول إلى سواحل أوروبا عبر شمال أفريقيا، مصرحاً بأن عدد السودانيين الذين بلغوا إيطاليا من تونس وليبيا العام الماضي، وإن لا يزال محدوداً (إذ لم يتجاوز 6 آلاف) فهو يشكّل ستة أضعاف الرقم المسجل سنة 2022. وتشير العديد من الشهادات في تونس إلى تزايد أعداد المواطنين السودانيين في أماكن وجود اللاجئين.
ويستمر في هذا الإطار تدفق أفارقة جنوب الصحراء بصفة غير قانونية عبر الحدود التونسية مع الجزائر وليبيا، ما يثير الكثير من التساؤلات حول أسباب غياب التنسيق بين البلدان المغاربية للتوقي من تسرب المهاجرين من جنوب الصحراء، ومن ثم عبور الحدود نحو تونس.
من الأكيد أن المهاجرين الأفارقة أصبحوا أقل رغبة في الاستقرار في تونس مثلما كانت الحال منذ سنوات خلت بعدما تضاءلت فرص التشغيل في البلاد بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة. ولكن وجودهم أصبح يمثل مشكلة تؤرق أجهزة الأمن التونسية التي تجد صعوبة متزايدة في التعامل معهم أمام سعيهم المحموم لعبور البحر مهما كانت السبل، ما يفاقم التوترات وأحداث العنف بين مجموعات المهاجرين الأفارقة غير النظاميين من جهة، وبين هؤلاء المهاجرين والسكان المحليين من جهة أخرى.
وزاد الطين بلّة سعي المهربين لاستغلال الوضع بتنظيم شبكاتهم مستعملين وسائل التواصل الاجتماعي ومخفّضين من أسعار العبور لجذب “الحرفاء” المتلهفين للهجرة، وإن كان ذلك يمرّ عبر توفير قوارب معدنية منخفضة الكلفة، ولكنها غير آمنة لنقل المهاجرين، ما يزيد في خطر غرق هؤلاء في عرض البحر.
تأتي زيارة ميلوني تونس بعد أيام من مصادقة البرلمان الأوروبي على قانون للهجرة واللجوء، يتضمن إجراءات جديدة تساعد سلطات الدول الأوروبية على ترحيل المهاجرين غير النظاميين إلى بلدانهم الأصلية. ويخشى الكثيرون في تونس أن تسعى السلطات الأوروبية إلى ترحيل المهاجرين غير النظاميين، ليس فقط إلى بلدانهم الأصلية، بل أيضاً إلى البلدان التي انطلقوا منها، ما يعني ترحيل أعداد كبيرة منهم إلى تونس، وهو ما سترفضه السلطات التونسية بكل تأكيد.
في كل الحالات ستحتاج عمليات الترحيل إلى تعاون السلطات التونسية التي ستسهر على حماية حقوقها ورفض الضغوط الأوروبية. وقد أكدت تونس عشية زيارة ميلوني أنها ترفض أن تكون معبراً أو مستقراً للمهاجرين غير النظاميين.
الأمر المثير للانشغال هو محاولة البلدان الأوروبية تصدير مشكل الهجرة غير الشرعية برمّته إلى بلدان شمال أفريقيا من دون النظر إلى جذور المشكلة، مستغلة حاجة العديد من بلدان المنطقة إلى المساعدة الاقتصادية.
تحتاج إيطاليا وأوروبا في الواقع إلى مراجعة مقارباتهما في مجال الهجرة بما يأخذ بالاعتبار الإمكانات المتاحة مع بلدان جنوب المتوسط، ومن بينها تونس، وليس فقط محاولة استغلال المصاعب الاقتصادية لهذه البلدان كورقة ضغط في بحثها عن حلول ظرفية.
أول الإمكانات التي تبدو متاحة مع إيطاليا أكثر من غيرها هو توسيع نطاق الهجرة النظامية، وذلك اعتباراً لحاجة إيطاليا إلى يد عاملة شابة في الوقت الذي ترزح فيه تونس مثلاً تحت وطأة الركود الاقتصادي وبطالة الشباب.
ورغم إصرار تشكيلات أقصى اليمين في إيطاليا على إذكاء المخاوف من الهجرة الأجنبية من جنوب المتوسط، فإن الواقع الديموغرافي في هذه الدولة الأوروبية يقول غير ذلك.
يتوقع الخبراء أن ينخفض عدد سكان إيطاليا خلال الأعوام القليلة القادمة من 60 إلى 55 مليون نسمة، من بينهم أكثر من 18 مليون متقاعد، ما ستكون له انعكاسات اقتصادية سلبية على إيطاليا.
ويشير الخبراء إلى أن رفع أعداد المهاجرين النظاميين هو الحل الوحيد على المدى البعيد أمام إيطاليا لإنقاذ توازناتها المالية اعتباراً لارتفاع مستوى الدين العمومي وزيادة نفقات التقاعد، في الوقت الذي تنخفض فيه الموارد الجبائية مع تقلص رقعة اليد العاملة.
وبحسب بعض الدراسات، ستحتاج إيطاليا إلى 280 ألف مهاجر جديد خلال العقود الثلاثة القادمة. كما أظهر استبيان للمؤسسات الخاصة في أيلول (سبتمبر) 2023 أن هناك بعدُ أكثر من نصف مليون وظيفة شاغرة في إيطاليا.
إلى حد الآن أبرمت إيطاليا مع تونس العام الماضي اتفاقية لتشغيل 4 آلاف شاب من ذوي المهارات. ومن حق تونس في هذا الصدد أن تطمح إلى إبرام اتفاقيات أخرى مع “جارتها” إيطاليا من أجل تشغيل أعداد أكبر من كفاءاتها الشابة. ولكن السلطات في روما تحتاج إلى النظر إلى الهجرة النظامية بمعزل عن المعايير الانتقائية التي يمليها الخوف على “الهوية المسيحية الإيطالية” التي يراها أقصى اليمين مهددة بقدوم مهاجرين من بلدان شمال أفريقيا.
ومن حق تونس أيضاً أن تطمح إلى مراجعة عميقة لملف التعاون الاقتصادي مع أوروبا التي تبدو إيطاليا من أكبر المتحمسين له لكنها لم تنجح البتة في حلحلته رغم الوعود المتكررة. وقد أدت الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اشتراط الاتفاق المسبق بين تونس وصندوق النقد الدولي كأساس للدعم الاقتصادي الأوروبي، إلى تأجيل تنفيذ معظم بنود “الشراكة الاستراتيجية” التي تضمنتها مذكرة التفاهم المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وتونس في تموز (يوليو) 2023.
قد لا يكون لإيطاليا الحجم الذي تدّعيه لنفسها في القدرة على توجيه السياسات الأوروبية تجاه شمال أفريقيا، ولكن جيورجيا ميلوني تستطيع على الأقل أن تلعب دوراً مهماً في محاولة إرساء أسس جديدة للتعاون التونسي الإيطالي بعيداً من التحذيرات المبالغ فيها “بانهيار” وشيك لتونس أو السعي إلى تحويل سلطات البلاد لحارس لشواطئ بلادها.
لو تم تصحيح الرؤية لأصبح قِصر المسافة التي لا تتجاوز 150 كيلومتراً بين تونس وشواطئ إيطاليا عامل قرب وليس مصدر خوف من قوارب المهاجرين.