نصف عام مر على عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من مجازر إسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، حيث تفننت إسرائيل بارتكاب أقسى الجرائم التي عرفها العالم في العصر الحديث.
مواقف دولية (شعبية ورسمية)، ورأي عام عالمي عبر عن استنكاره لما يحدث، رافقه غياب شبه تام لموقف المؤسسات الدينية، العالمية والعربية والدولية إزاء ما يحدث.
اللافت أيضاً غياب ردود الأفعال من الجماعات التي تدعي أنها إسلامية، مثل داعش وجبهة النصرة وحركة تحرير الشام وجند الشام.. إلخ. وغيرها من الحركات الأصولية المتطرفة.
على الصعيد الدولي كان مستغرباً موقف الايغور الصينيين، والذين من المفترض أنهم مسلمين، أو أنهم يدعون ذلك على الأقل، حيث لم يكتفي هؤلاء بالحياد، بل أعلنوا تأييدهم المطلق لإسرائيل.
وهو ما يثبت لنا أن اندفاع العديد من الدول العربية والإسلامية للدفاع عن الإيغور كان إما عن جهل، أو نتيجة لاعتبارات سياسية، وتنفيذاً لمطالب وأجندات خارجية. فلماذا لم نسمع من تلك الدول أيّ مواقف حول ما تقوم به الهند على سبيل المثال ضد المسلمين فيها، أم أن موقفها جاء متفقاً مع الموقف الأميركي الصامت تجاه الهند والداعم لها.
الولايات المتحدة الأميركية تسعى لـ “تفعيل الهند” باعتبارها كتلة آسيوية يمكن أن تكون منافساً للصين، خاصة وأن هناك مشكلات تاريخية وخلافات حدودية بين الهند والصين. وقد سعت الولايات المتحدة إلى ضم الهند إلى تحالف كواد الذي يستهدف محاصرة الصين، وشجّعت الدول العربية و”إسرائيل” وإيطاليا على الموافقة على “الممر الهندي”، والذي هو في الواقع مشروع أميركي هدفه منافسة مشروع الحزام والطريق الصيني.
عدم انتقاد “الموقف المتخاذل للإيغور” تجاه القضية الفلسطينية، يشير من دون أدنى شك إلى حالة التسييس التي تنتهجها وسائل الإعلام العربية والدولية، والتي أغفلت في الوقت ذاته تسليط الضوء على الموقف المتقدّم لبكين، وإدانتها الواضحة للاحتلال الصهيوني وسلوكياته.
لذا فإننا لم نعد نسمع كثيراً عن قضية الإيغور التي كثيراً ما كانت تطالعنا بها وسائل الإعلام العربية والدولية، وتروّج لها باعتبارها ورقة يمكن استخدامها لتشويه سمعة الحكومة الصينية، لابتزازها والضغط عليها.
الغريب في الأمر أن هذا الموضوع كان يثار بمنطق “التعميم”، بمعنى السعي للقول إن “الصين تعمل على اضطهاد المسلمين الموجودين فيها”، وهذا غير صحيح بكل تأكيد، خاصة وأن الإيغور ليسوا القومية المسلمة الوحيدة، حيث يوجد عشر قوميات مسلمة في الصين.
الدين أفيون الشعوب، عبارة قالها كارل ماركس، وفهمها الكثير فهماً خاطئاً، معتقدين أن ماركس ومن خلال كلمته هذه كان يقصد الإساءة إلى الأديان، بينما هو في الواقع يدعونا إلى التحرر من أفكارنا البالية، وإعمال منطق العقل، والابتعاد عن سلوك القطيع.
إثارة الغرائز، والعزف على المعتقدات، البحث عما يفرق، والابتعاد عما يجمع، سياسة أوجدتها بريطانيا سابقاً، واستخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لا حقاً.
هذه السياسة تنطبق وبشكل كبير على حركات الإسلام السياسي، بمختلف تسمياتها وتوجهاتها، وأياً كانت الجهة التي تدعمها، والتي لا تريد لها سوى أن تكون أداة تستخدمها عند الحاجة، ثم ترميها كما نرمي قفازاتنا المتسخة.
تعاطفنا مع الشعب الفلسطيني نابع من اعتبارات قانونية أولاً، لشعب احتلت أرضه، وإيمان بحقه في مقاومة الاحتلال. ولاعتبارات إنسانية ثانياً، بمعنى أني أقف معه كما يقف معه أي إنسان في العالم، سواء أكان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً غير صهيوني، أو لا ديني، القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو الإنسانية.
الإنسانية وحدها، ولا شيء سواها، هي أساس الأديان كلها، وهي المقياس لحضارة الشعوب وتمدنها، فكيف لحضارة متقدمة أن تتنكر لإنسانيتها وتقف مع الباطل!
لقد كان موقف الحكومة الصينية متقدم جداً على موقف هؤلاء (الايغور) والذين يفترض أنهم مسلمين، فالحكومة الصينية وقفت مع الشعب الفلسطيني تاريخياً، وأعلنت أن طوفان الأقصى ليس سوى ردة فعل على ظلم تاريخي تعرض له الشعب الفلسطيني.
بينما تنكر قادة الايغور، الذين يعيشون في الخارج، ويرتبطون بأجندات خارجية لدول معادية للصين، تنكروا لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن وطنه، وأعلنوا تأييدهم المطلق لإسرائيل.
ما يسمى بالمؤتمر العالمي للآيغور والذي يتخذ من ألمانيا مقراً له، أصدر بياناً في التاسع من أكتوبر الماضي، أي بعد طوفان الأقصى بيومين، أعلن فيه موقف الايغور الرافض لما قامت به حركة حماس، وأعلن تضامنه مع المستوطنين الصهاينة، حيث اعتبرهم مدنيين تعرضوا لعمليات إرهابية.
من المفيد هنا أن نذكر القارئ أنه يوجد في الصين ست وخمسون قومية، كل تلك القوميات تعيش وتتمتع بالحرية المطلقة في ممارسة شعائرها الدينية، طالما أنهم صينيون أولاً وقبل كل شيء، وليسوا مرتبطين بأية أجندة خارجية تستهدف وطنهم.
المشكلة لدى بعض الإيغور أن لديهم نزعة انفصالية تغذّيها قوى خارجية، وخاصة تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وباقي الدول المعادية لبكين.
الحريات الدينية أمر مصان في الصين، ولعل المواطنين العرب الذين يعيشون هناك، أو الذين يزورونها يدركون ذلك، ويرونه بأم العين.
ما تحققه الصين من قفزات كبيرة على الصعيد الاقتصادي والسياسي والإنساني، على مستوى العالم أجمع، محط اعجاب لأصدقاء الصين، ومصدر قلق وتحد لأعدائها بكل تأكيد.
حجم الاستهداف الذي تتعرض له الصين كبير جداً، خاصة وأن أعداءها يسيطرون على مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها العرب وبشكل كبير.
إن ما وصلت إليه الصين اليوم، هو عائد بالدرجة الأولى للقيادة الناجحة للحزب الشيوعي الصيني، الذي أثبت للعالم، وبما لا يدع مجالاً للشك، قدرته على بناء الأوطان.
يعد الرئيس شي جين بينغ شخصية استثنائية في التاريخ السياسي الحديث للصين، حيث استطاع تحقيق قفزات نوعية في مجال بناء الدولة وتعزيز مكانة الانسان، والعمل على استكمال بناء الجيش الصيني، والتركيز على التنمية فائقة الجودة التي سترسم مستقبل العالم، وتحدد موازين القوى فيه. لذا فمن غير المستغرب أن يتم استهدافه شخصياً كونه أزعج أعداء الصين، باعتباره صاحب أكبر مشروع اقتصادي عرفه التاريخ (مشروع الحزام والطريق).
لقد انتهجت الصين سياسة سلمية، فسعت إلى نشر قيم السلام وتحقيق المصالحات، ونجحت في تقريب وجهات النظر بين أكبر بلدين إسلاميين، وهما المملكة العربية السعودية وإيران.
تلك المصالحة أغضبت أعداء الصين، وأعداء العرب والمسلمين، خاصة وأنهم عملوا ولسنوات طويلة على تشويه صوره الصين، وتصويرها في ذهن المواطن العربي على أنها بلد معاد للإسلام والمسلمين.
تلك الأكاذيب بدأت الأيام تكشف زيفها، وبدأ العرب والمسلمين يدركون دور الصين الداعم لهم، فكانت بكين المحطة الأولى لجولة وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية من أجل وقف الحرب في غزة.
وبات من حق المواطن العربي أن يتساءل لماذا تقف الحكومة الصينية إلى جانبنا، في حين يقف من يسمون أنفسهم مسلمين صينيين (الايغور) إلى جانب إسرائيل؟
أستاذ في كلية الدراسات الدولية