لم يكن أحد، قبل شهرين وبضعة أيام، يتوقّع حدوث أيّ تغيير في حسابات موسكو في سورية، التي كانت مُمسكةً بمسارات الصراع السياسي العسكري في البلاد. فقبل إسقاط الشعب السوري نظامَ الأسد، كانت روسيا تعمل لتقريب وجهات النظر بين تركيا ودمشق لإنجاح مسار تطبيع العلاقات، وإعطاء زخم دولي لدول عربية أعادت فتح سفاراتها في دمشق، وعومّت الأسد عربيّاً، وأعادته إلى جامعة الدول العربية، في مقاربةٍ كان عنوانها “الخطوة بخطوة”، جاءت بعد قبول أكثر الدول العربية الواقع السوري لاحتواء الأسد، والتعامل معه أمراً واقعاً، بعد غياب أيّ نيّة دولية في إيجاد حلّ للنزاع، بل تحوّل الأمر إلى منح المجتمع الدولي الأسد مكافأةً على التزامه الحياد في المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في المنطقة، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولا ننسى الفضيحة الكبرى التي كانت تُطبَخ على عجل خلف الكواليس الغربية، بصفقةٍ كانت تعمل عليها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لتخفيف العقوبات على النظام المخلوع، في مُقابل تخلّيه عن إيران، تماشياً مع المسار الأوروبي بقيادة إيطاليا مع ستّ دول أوروبية، كانت تعمل على إيجاد مسار جديد للتعاطي مع النظام السوري، تحت ذريعة إعادة اللاجئين السوريين، ومحاربة الهجرة غير الشرعية.
آنذاك، كانت روسيا، رغم دخولها في حرب استنزاف في أوكرانيا منذ 2022، تعمل لإمساك جميع قواعد اللعبة السورية، فمن جهة حافظت على مسار أستانة بالتنسيق مع تركيا وإيران، ونجحت في ثني إسرائيل عن استهداف قواعد النظام العسكرية في سورية، وضبط إيقاع جبهة الجولان، ومنعت أي مهدّدات لقواعدها في طرطوس وحميميم، ونجحت في موازنة علاقاتها مع إيران، وحزب الله في لبنان، من دون الانزلاق في حرب المواجهات المفتوحة، وأرسلت وفداً إلى العراق لترتيب طاولة وساطة رباعية تضمّ أنقرة ودمشق، والأهم أنّ مكاسبها الاقتصادية من استثمارات في الفوسفات والنفط في البحر المتوسط، والتنقيب عن الغاز، جميعها كانت ساريةً، أي أن روسيا التي بَنت جملة من المكاسب الاقتصادية والعسكرية منذ تدخّلها في سورية (سبتمبر/ أيلول 2015)، لم يبقَ لها إلّا إنجاز تسوية سياسية سورية على مقاسها، تحصد من وراءها مكاسبَ استراتيجيةً تستقوي بها في حروب كسر الإرادات الدولية مع المجتمع الغربي، والولايات المتحدة. لكن عملية ردع العدوان التي نفّذتها فصائل المعارضة السورية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وصولاً إلى تتويجها بدخولها دمشق، والإعلان عن إسقاط النظام السوري في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، نسف كلّ المكاسب والامتيازات الروسية في سورية، وأجبرها على إعادة حساباتها.
بعد تحرير فصائل “ردع العدوان” حلب، بدأت روسيا بإظهار براغماتية جديدة، مكّنتها من الاستيعاب السريع لصدمة سقوط حليفها في دمشق، فامتنعت عن إطلاق وصف الإرهاب على فصائل المعارضة السورية، ورفعت علم الثورة السورية في القنصلية السورية في موسكو، وصدّرت موقفاً إيجابياً عكس نيتها إقامة علاقات جديدة مع السلطة الجديدة في دمشق، مبنية على الاحترام المتبادل بين البلدَين، واحترام رغبة الشعب السوري في تقرير مصيره، كما لمَّحت في بادئ الأمر إلى رغبتها في الحفاظ على مصالحها في سورية، بما فيها الاتفاقيات التي أبرمتها مع النظام البائد حول استثمار قاعدة طرطوس البحرية لمدّة 49 عاماً، واتفاقية التنقيب عن الفوسفات والغاز في البحر المتوسّط، لمدّة 25 عاماً. دفعت هذه المواقف المجتمع الغربي ودول أوروبا إلى التقاطر على دمشق، وفي هذا الصدد اشترطت الوفود الأوروبية على حكومة الشرع إنهاء النفوذ العسكري الروسي في سورية في مقابل دعم سورية في رفع العقوبات ومشاريع التعافي الاقتصادي والاعتراف بالحكومة وإعادة الإعمار، ما وضع الحكومة السورية أمام تحدٍّ كبير في كيفية موازنة علاقاتها بين المعسكرَين الشرقي والغربي. فهي من جهة، تحتاج إلى الدعم الغربي في المجالات كلّها، أهمها رفع العقوبات، وملف إعادة الإعمار، ونيل الشرعية الدولية، وإزالة هيئة تحرير الشام من لوائح العقوبات. ومن جهة ثانية، لا تريد أن تكون وجهتها غربيةً، فذلك قد يُتيح للمجتمع الغربي ممارسة إملاءات وشروط ضاغطة على حكومة دمشق، والتدخّل في شأنها الداخلي. لأجل ذلك، رأينا خطوة الرئيس أحمد الشرع لإبقاء الباب موارباً أمام موسكو، وفتح مسار مفاوضات معها لإعادة تشكيل العلاقات بمقاربةٍ جديدة مختلفة تماماً عن سياسة الوصاية التي مارستها موسكو في حقبة النظام السوري، ولدفعها في هذا الاتجاه، مارس الشرع عليها ضغطاً متوسّطاً حينما أعلن إلغاء اتفاقية مرفأ طرطوس الاستثمارية مع شركة روسية، جاء ذلك بعد سحب روسيا جزءاً من عتادها العسكري من قاعدة طرطوس، وسفنها البحرية، ونقل جزء كبير منها إلى منطقة نفوذها في ليبيا.
بطبيعة الحال، بدا أنّ رسالة دمشق في إلغاء اتفاقية مرفأ طرطوس وصلت إلى موسكو، التي كانت تتعمّد التأخير في إرسال وفدها إلى سورية، منتظرةً ما سيؤول إليه الانفتاح الغربي الأوروبي على حكومة الشرع، إذ كانت تأمل في تكرار سيناريو أفغانستان، حينما ترك الانسحاب الأميركي المفاجئ فراغاً سياسياً في البلاد، فاقتنصت الفرصة إلى جانب الصين، وعزّزتا علاقاتهما مع حكومة طالبان. خاب ظنّ موسكو بعد وضوح المشهد السوري لديها، واختلافه الكلّي عن أفغانستان، فبدأت تمهّد لزيارة رسمية إلى دمشق من خلال إرسال الوفد البيلاروسي (حليف روسيا التقليدي)، ولقائه الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، تلا ذلك إصدارها بياناً عبر وزارة الخارجية (24 يناير/ كانون الثاني 2025)، تحدّثت فيه عن رغبتها بفتح حوار بنّاء مع سورية، مع إمكانية إعادة النظر في دور القواعد العسكرية الروسية، وتخصيصها مؤقّتاً مراكز لتقديم المساعدات الإنسانية. بعد ثلاثة أيام، تحديداً في 27 يناير الماضي، أرسلت وفداً رسمياً ضمّ نائب المتحدّث باسم وزارة الخارجية ميخائيل بوغدانوف، ومبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ألكسندر لافرنتييف، والتقى الوفد مع أحمد الشرع في لقاء امتدّ لثلاث ساعات، ناقش الجانبان، وفق تصريح بوغدانوف لوكالة تاس الروسية، العلاقات التجارية والاقتصادية، واعتبر أنّ اللقاء كان إيجابياً، وركز على العلاقات التاريخية الوديّة بين البلدَين، وفي ما يخصّ القواعد العسكرية قال لا تغيير سيطرأ عليها، ومصيرها المستقبلي سيتطلّب إجراء حوارات موسّعة مع السلطات الجديدة في دمشق. لكنّ بيان الإدارة الجديدة في سورية جاء مغايراً لتصريحات بوغدانوف، إذ أشار إلى أنّ النقاشات تركّزت على احترام سيادة سورية وسلامة أراضيها وفق التغيير الحاصل. كما كان لافتاً ما جاء في بيان حكومة دمشق بالتأكيد على ضرورة بناء الثقة مع الشعب السوري، عبر اتخاذ تدابير ملموسة، مثل تقديم تعويضات، وإعادة الإعمار، وتلافي أخطاء الماضي، والأكثر أهمية الحديث عن العدالة الانتقالية، وهذا يعني تسليم بشّار الأسد وزوجته إلى المحاكم السورية، ومعلوم أن روسيا منحت بشّار الأسد لجوءاً إنسانياً، وجعلته ورقة تفاوض رابحة في يدها، فهل ستُقدم مستقبلاً على تسليمه في مقابل الحفاظ على مصالحها وقواعدها في سورية؟ … غير متوقّع في أدبيات التعامل الدبلوماسي الروسي من باب الحرص على سمعتها الدولية مع الحلفاء.
التباين في البيانات الصادرة من الجانبين أشار إلى صعوبة المفاوضات، ودخولها مساراً تفاوضياً شائكاً لا تغيب عنه الفواعل الدولية كتركيا، التي قدّمت تطمينات لروسيا خلال معارك ردع العدوان، في لعب دور وساطة مع دمشق من أجل الحفاظ على مصالحها في سورية، لكن اتضح أن الرئيس بوتين يريد إنجاح المفاوضات بأيّ طريقة ووسيلة، مستغلّاً حاجة دمشق إلى المساعدات في المجالات كلّها، وتريّث المجتمع الغربي، ودول أوروبا، في رفع العقوبات الجزئي، الذي بات مرهوناً بمطالب وشروط ما زالت قيد الانتظار، منها حلّ مسألة الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في شمال شرقي سورية، وتعزيز الاستقرار، وتشكيل حكومة تشاركية من كامل أطياف الشعب السوري، وهي مُحدّدات ينظر إليها الأوروبيون على وجه الخصوص باعتبارها ضرورات نجاح الاستقرار السياسي في سورية، الذي يعني الاستقرار الأمني الأوروبي، انطلاقاً من موقع سورية القريب منها في شرق المتوسّط.
يبدو أن الرئيس بوتين قرأ تماماً المقاربة الدولية الغربية الأوروبية مع سورية الجديدة، وعلم أنّها تحتاج إلى وقتٍ طويل، فسارع إلى خرق تلك المقاربة عبر إجراء اتصال هاتفي مع الرئيس الشرع. مكالمة جاءت بعد تصريحات إيجابية بالنسبة إلى روسيا من وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، لصحيفة واشنطن بوست، حينما قال إنّ بقاء القواعد الروسية في سورية مرتبط بالمكاسب التي ستحصل عليها سورية، بالفعل نتج عن الاتصال إفراج روسيا عن حزمة أموال سورية كانت مجمّدةً ومطبوعةً سابقاً، وفُهِم من ذلك أنّ ملف عودة الأموال المنهوبة من قبل النظام المخلوع ورموزه قد نُوقِشت خلال المكالمة المشتركة، وأن السرعة في استجابة بوتين دليل على رغبته في بناء علاقات جديدة مع الشرع، داعياً إيّاه إلى زيارة موسكو في قادمات الأيام.
واقع الأمر أن ما يقوم به الشرع لعبةٌ سياسةٌ ذكيةٌ مع موسكو، بعد حالة التباطؤ في رفع العقوبات الغربية عن سورية رغم إقرارها من المجتمع الدولي، في الوقت نفسه، مبادرة الرئيس بوتين لا تعني أن العلاقات ستعود في وقت قريب، فبيان حكومة دمشق كان واضحاً في تحديد الخطوط العريضة لموسكو في حال رغبت في بناء علاقات جديدة وكاملة مع سورية، وطيّ صفحة الماضي، إذ لا يمكن تجاهل دورها السلبي في قتل السوريين ومساندة النظام البائد، فهناك إرادة شعبية لا يمكن للشرع تجاهلها، في الوقت نفسه، سيتبع براغماتيةً سياسيةً بين روسيا والغرب، واللعب على التناقضات على غرار النهج التركي، لمنع أيّ طرف منهما من ابتزاز سورية أو فرض شروط وإملاءات على حكومة دمشق تتعلّق بشكل ومستقبل الدولة والنظام السياسي في البلاد. الورقة الروسية بيد دمشق مهمة في المرحلة الحالية لموازنة علاقاتها مع المجتمع الدولي، لكن لا شيء مضموناً في نجاح هذه المعادلة، فسورية ليست تركيا ولا تمتلك إمكاناتها في الوقت الحالي، وما زالت في موقف حرج، وولادة جديدة، ولا تحتمل هدر وقت طويل في سبيل الحصول على الدعم المطلوب، وقد تضطر إلى اتخاذ مواقف صريحة في نهاية المطاف ضدّ روسيا في حال غيّر المجتمع الدولي تعامله مع دمشق. أمّا روسيا، فستستمرّ في حوارات مع سورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح والامتيازات، ولو بالحدّ الأدنى، وقد يكون ذلك مُرضياً لها بالنظر إلى استراتيجية البدائل التي عملت فيها منذ سنوات في أفريقيا و ليبيا، ولا يمكن إغفال عامل التنافس الدولي، فالتغيير في سورية فتح شهية وأطماع الدول الكبرى، وبدأ السباق والتزاحم على دمشق، والكلّ بات يرغب في إرسال دعوة للشرع لزيارته فرنسا وألمانيا وروسيا، والجميع ينتظر موقفاً واضحاً من إدارة دونالد ترامب لحسم هذه المنافسة وانعكاسها على سورية في ميزان الربح والخسارة، وعليه ترتيب وتحصين الوضع الداخلي السوري، وحلحلة المشاكل والتحدّيات. هي مهمات صعبة أمام الرئيس الشرع، ومن دونها لا يمكن أن يصبح متحصّناً وقوياً مع الأصدقاء والحلفاء والأعداء.