عندما أقرأ عن مواصفات رئيس الجمهورية العتيد، ينتابني شعور بأننا نبحث عن ملابس بمقاييس معيّنة في شارع Faubourg Saint Honoré الفخم أو جادة Montaigne الباريسية الزاهية بابتكارات الأناقة، فلا نجدها. فإما متاجرها الراقية تفتقر إلى الحداثة في المواصفات والنماذج، فلا تُشبِع نهم الباحث اللبناني، وإما أن المغالاة في الطلب هي غير طبيعية أو غير متناسقة.
وكأنني أيضاً بسندريللا هذه المرة تبحث عن مقاييس أمير يلبّي طموحاتها، فلا تجده بعد طول انتظار إلا بتدّخل “الساحرة الطيّبة”، كما تروي القصة الأصلية، فتضع أوزار المعاناة بالخاتمة السعيدة.
ولدى تحديد مواصفات الرئيس، ينبغي برأيي تعديل المقاربة والالتفات أيضاً إلى ناحية أخرى. يلاحظ الفيلسوف الفرنسي Alain أنّ “الحقيقة الواحدة تنطوي في الواقع على حقيقتين متكاملتين هما حقيقة الشيء وحقيقة الإنسان”.
اقرأ أيضا.. كيف سيعبر لبنان استحقاق 9 كانون الثاني وصولاً إلى استحقاق الـ 20 منه الأميركي؟
قلّما سمعت عند البحث في أوصاف الرئيس العتيد تحديداً لمواصفات وطن المستقبل وتوافقاً على لبنان سيّد، مستقرّ ومستحبّ، يرتاح ويريح من المِحن والمحاور. ولا يجدي التفتيش عن الأول إن لم ندرك واقع الثاني.
فقد تكاثرت أزمات لبنان، ولعلّ أخطرها سقوط الإنسان اللبناني كنموذج بميزات نادرة في المجتمعات، فانشطر اللبنانيون إلى أصناف متناقضة، منها:
– الصنف الأول، مزيج من عنترة بن شدّاد وأبو الطيّب المتنبي.
– الصنف الثاني، الطيبون والوديعون للتصدير.
– الصنف الثالث، البؤساء ضحايا أسوأ الأزمات.
– الصنف الرابع، الأوليغارشية اللبنانية، المسؤولة عن الكساد المتعمّد بحسب البنك الدولي.
وعلى خلفية التحوّلات الدامية في المنطقة، يقع لبنان بين فكّي المطامع والاعتداءات الإسرائيلية، والنزوح السوري الاحتلالي. والخشية من أن تقتلع هذه الكمّاشة آخر مقوّمات وجوده، مستغلّة تنائي اللبنانيين.
لا شكّ في أن الأعباء الثقيلة تجعل الإنقاذ عملية ملحّة، وإنما أتساءل إن كان الرئيس المرتجى قادراً وحده، في إطار المسلّمات الدستورية ومحدوديتها، على اجتراح معجزة الخلاص في زمن شيطنة الملائكة وتبرئة الشياطين. ويبقى أن مواصفات الرئيس، منفردة، لا تكفي.
ذات يوم من عام 1989، سألني المير فاروق أبي اللمع، الألمعي بنبل إنسانيّته، عن مواصفات أعوان الرئيس القويّ، وسرعان ما أظهر مكنون نفسه باستبعاد الضعفاء، مضيفاً: “الرئيس القويّ يختار الأعوان الأقوياء أي النخبويين والأكفاء والقادرين والمستقيمين”. فالمسألة كعملة واحدة بوجهين، ثقة رئيس الجمهورية بنفسه وثقته بفريق عمله، من دون الالتفات إلى التوازنات والمراعاة والاعتبارات التي حجّمت الجدارة وهمّشت الوطن. فلا يُحْكَم بلد في مأزق “بأقزام” ولا بأنصاف الحلول.
فؤاد شهاب، العسكري الديمقراطي والقانوني الدستوري، والرؤيوي الإصلاحي، انتقى نخبة لا نامت، ولا استترت تحت عباءة السياسيين، رغم اضطراره إلى التعاطي معهم بمزيج من الفهم والحذر والتحفظ. ولكلّ من أولئك المعاونين قصّة، “بيد أن الوجهين المدنيين الجديدين (آنذاك)، الأبرز والأكثر تجسيداً للشهابية كانا فؤاد بطرس وإلياس سركيس. جاء بهما بطريقة مشابهة… بعدما كان دوّن اسميهما في دفتر صغير كان يحمله في جيب بزّته العسكرية”، وفق ما يقول الباحث والصديق نقولا ناصيف في كتابه “جمهورية فؤاد شهاب”.
وللمناسبة، وفي زمن الانهيار، حيث المحسوبيات هي معيار الشرفيّات، سأروي ما تيسّر من قصة اختيارهما، علّها تكون عبرة لإعادة التقاط القيم وصونها من الاندثار.
بعد انقضاء 13 عاماً على أول لقاء مهنيّ لفؤاد بطرس باللواء فؤاد شهاب في آذار 1946، لم يدرِ فؤاد بطرس يوماً بأن فؤاد شهاب سيستدعيه بتاريخ 30 أيلول 1959 لتولّي وزارتَي التربية والتصميم في حكومة الرئيس رشيد كرامي، رغم إدلائه برأي قانوني مبدئي بعيد الاستقلال بصفته قاضي تحقيق عسكري، لم يلقَ استحساناً لدى وزير الدفاع. جاء في مذكّراته أن وزير الدفاع الأمير مجيد أرسلان وقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب زارا المحكمة العسكرية بعد أن أضحت لبنانية. وقبل رحيلهما سأل الوزير “تردني أخبار في بعض الأحيان عن توقيف أشخاص ظلماً. ماذا يسعني أن أفعل لرفع الظلم اللاحق بهم؟”.
وحيث إن رئيس المحكمة العسكرية والمدعي العام لاذا بالصمت، ولكل منهما أسبابه، أجاب بطرس بالقول: “معالي الوزير، يمكنك لفت نظر مفوّض الحكومة إلى الوضع المشكو منه ،فيتحقق من الأمر ويحضّر مطالعته لقاضي التحقيق وفقاً لما يقتنع به، ولهذا الأخير الحق بالبتّ في طلب إخلاء السبيل بعد الإطلاع على كلّ المعطيات”، بمعنى أن القرار يعود لقاضي التحقيق. فاستوضح الوزير لماذا لا يراجع المحقّق مباشرة، فأتاه الجواب: “لا يمكن ذلك لأن المحقّق قاضي حكم خلافاً لمفوّض الحكومة، وإلاّ يحصل إخلال بمبدأ فصل السلطات”. ويضيف القاضي بطرس بأن “قائد الجيش كان يصغي بانتباه إلى الحديث، فابتسم وهزّ رأسه، وحدّق بي كإشارة موافقة وتقدير، وانتهى الأمر عند هذا الحدّ”. ويبدو بأن قصة اللقاء الاول لم تنتهِ، إذ بعد سنوات طويلة، رنّ هاتف منزله مرتين في أيلول 1959، ليحدّثه على التوالي الأستاذ إلياس سركيس من القصر الجمهوري، وناظم عكّاري مدير عام رئاسة الحكومة، بطلب الحضور إلى منزل الرئيس شهاب في جونية لدخول الحكومة. وأعتقد بأن اللقاء الثاني هو منطلق مسيرة فؤاد بطرس مع فؤاد شهاب والشهابية التي حمل سلّمها بالطول وبالعرض ( لمن يدرك هذه اللغة المشفّرة)، ولم تخرج منه، كما الروح، إلا بوفاته عام 2016.
في الجوهر، تتقاطع قصة فؤاد بطرس مع مسيرة القاضي إلياس سركيس، المستشار في ديوان المحاسبة التي بدأت عام 1956، من حيث تشبّث الاثنين بالرأي القانوني المعلّل من دون مساومة عليه.
ويبدو من المعطيات المتوفّرة بأنّ معاملة إدارية ومالية لوزارة الدفاع الوطني وضعت المسؤولين في الوزارة من رفاق درب اللواء فؤاد شهاب، المتمسّكين بأسبابها الموجبة، والقاضي إلياس سركيس، في موقعين متعارضين، فيما اللواء شهاب حريص على قرار قانوني وعادل.
وأخذت القضية تنجلي عندما اجتمع قائد الجيش بالقاضي سركيس موفداً من رئيس ديوان المحاسبة جميل شهاب، فاقتنع بحججه رغم احتجاجات المراجع العسكرية المختصّة. ويروي النقيب ميشال أسعد فضلو ناصيف، المرافق الخاص للرئيس شهاب، والعميد المعاون للرئيس سركيس لاحقاً، بما اختزن من معلومات هائلة، أن اللواء شهاب خاطب الأفرقاء خلال اجتماع مشترك بالقول: “إذا لم نحكم بالعدل، نجومنا على أكتافنا تكون تنكاً”. وأردف العميد الصديق بأن الرئيس شهاب استعان بالقاضي سركيس كمستشار للشؤون المالية والإدارية مع بقائه في ملاك ديوان المحاسبة. وارتقى في المسؤولية منذ كانون الثاني 1959 ليصبح الشخصية الأكثر نفوذاً في إدارة العهد الشهابي إلى درجة أن الرئيس شهاب كان “يأتمنه على المدرسة والنهج والخطط الإصلاحية” حتى قيل إنه “صاحب التوقيع الفعليّ لكلّ مرسوم في طريقه إلى التنفيذ بعد موافقة رئيس الجمهورية عليه” (نقولا ناصيف، جمهورية فؤاد شهاب).
ولئن برز هذا الثنائي إلى حدّ الهَوَس بالقانون والعدالة وهالة الدولة والاستقامة والترفّع والتجرّد بصفات مشابهة للرئيس، فقد عاونه أيضاً “مدنيون جدد” من أرباب الاختصاص، ساهموا في بلورة البُعد الإصلاحي والإنمائي والتقدّمي للشهابية كنهج حكم، أمثال باسم الجسر وشفيق محرّم ومحمود عثمان ومنح الصلح وكارلوس خوري، من دون إغفال ضباط قدوة وبعض السياسيين الجدّيين، المخلصين والأوفياء، وإن كان الرئيس متحفّظاً بطبعه تجاه محترفي السياسة.
هؤلاء الأشخاص حازوا من خصال الشرف أوفرها ومن محاسن الأخلاق أنبلها ومن مراتب الكفاءة أرفعها.
وفي زمن الفراغ المحلّي و”المخطّط الإقليمي” والتوسّع الإسرائيلي وطموح وجموح الدور الإيراني، فإن مجرّد الإشارة إلى الشهابيين، خاصّة الرجال الثلاثة، تزكي الأمل ولو ممزوجاً بمشاعر “الفرح الحزين” مثل حالة الإعلامية الفرنسية السابقة Anne Sinclair، عندما تذكّرت في كتابها Passé Composé ميشال روكار، أحد العمالقة الاشتراكيين، الذي”آمن بأنّ الأسوأ ليس بالضرورة مؤكداً، وبأن المستقبل يعتمد على الرجال الذين يصنعونه”.
عسانا نعتبر بتجربة الكبار في تاريخنا.