من يوشع إلى سموتريتش: الإبادة قرار إلهي!
قد لا يكون اليوم بعيدا حين تستطيع إسرائيل المباشرة بتنفيذ وعد الرب الأكبر لإبراهام حين قال له: «لنسلك أعطي هذه الأرض… من نهر مصر إلى النهر الكبير: نهر الفرات. »
قلبت هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 الموازين رأسا على عقب، فالكثير من الشباب العرب اعتنقوا الماركسية – اللينينية باعتبارها سفينة نوح التي ستوصلهم إلى شاطئ الأمان وتجلى ذلك بأحسن صوره بين فصائل المقاومة الفلسطينية وحركة القوميين العرب.
من ناحية أخرى، قلبت تلك الهزيمة التي سمحت لإسرائيل أن تحتل أراضي عربية تزيد عن مساحتها بعدة مرات خلال ستة أيام فقط، الكثير من اليهود الغربيين غير الملتزمين إلى أصوليين متشددين. فكأنهم بهذا الانتصار وجدوا أن الرب التوراتي قد وفّى بعهده الذي قطعه (حسبما جاء في التوراة) لجدهم البطريارك أبراهام، بمنح أرض كنعان لنسله.
ولعل ما نراه اليوم أمامنا في غزة من عمليات إبادة هي نوع من تقليد لا شعوري لما جاء في بعض الأسفار التوراتية مثل سفر التكوين وسفر يوشع، فبدلا من أن يكون “العهد القديم” سردا تاريخيا لبني إسرائيل أصبح دليل عمليات (عسكرية) لدى المستوطنين اليهود الغربيين الذين جاءوا إلى إسرائيل بعد هزيمة الخامس من حزيران/يونيو، ثم تزايدت أعدادهم وفق متوالية هندسية بعد اتفاقية أوسلو عام 1993 لتصل إلى المليون موزعين بالدرجة الأولى بين الضفة الغربية والقدس الشرقية. هذه القراءة لبعض الصفحات من التوراة وما يجري في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية يساعدنا على فهم القوة الخفية وراء هذا التغول المستمتع بسفك دماء المدنيين الفلسطينيين دون أي وازع ضمير أو خوف من ردود المجتمع الدولي عليهم.
حروب إبادة قديمة
بعد وفاة النبي موسى في الأردن اختار إله بني إسرائيل خادمه يوشع كي يقود شعبه المختار نحو أرض كنعان التي سبق أن وعد الأب البطريارك إبراهام بمنحها إياه ونسله بعد قدومه إليها من حاران.
وعلى الرغم من عناية الكنعانيين بالزائر الغريب واحتضانهم إياه وتوفير الأمان له، فإن الرب ظهر أمامه يوماً، ليخبره بقراره النهائي القاطع: “لِنسلكَ أعطي هذه الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح الثاني عشر).
كانت أريحا أول حاجز واجه يشوع بعد عبوره نهر الأردن، وعلى الرغم من عدم وجود أي عداوة مسبقة بين سكان هذه المدينة وبني إسرائيل فإن حظهم السيئ جعلهم حجر عثرة أمام تحقيق وعد إله بني إسرائيل القديم.
فبعد مضي أكثر من أربعمئة سنة على موت إبراهام، ها هو الإله يشارك في التخطيط لإزالة أريحا بما فيها ومن فيها.
نقرأ في سفر يوشع هذه السطور التي يسعى وزير المالية الإسرائيلي بسلئيل سموتريتش (الأوكراني الأصل) وإيتمار بن غفير وزير الأمن إلى تطبيقها حرفيا على غزة:
وَصَعِدَ الشَّعْبُ إِلَى الْمَدِينَةِ (مدينة أريحا) كُلُّ رَجُل مَعَ وَجْهِهِ، وَأَخَذُوا الْمَدِينَةَ. وَحَرَّمُوا (أبادوا) كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ.”.
مع ذلك فإن يوشع كافأ الخائنة التي ساعدت بني إسرائيل على تحقيق وعد الرب على الأرض، أحسن مكافأة، فنجد الإصحاح يذكّر بهذا المبدأ الذي ما زال قائما حتى اليوم: “قَالَ يَشُوعُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَجَسَّسَا الأَرْضَ: «ادْخُلاَ بَيْتَ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ (المومس) وَأَخْرِجَا مِنْ هُنَاكَ الْمَرْأَةَ وَكُلَّ مَا لَهَا كَمَا حَلَفْتُمَا لَهَا». فَدَخَلَ الْغُلاَمَانِ الْجَاسُوسَانِ وَأَخْرَجَا رَاحَابَ وَأَبَاهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا وَكُلَّ مَا لَهَا، وَأَخْرَجَا كُلَّ عَشَائِرِهَا وَتَرَكَاهُمْ خَارِجَ مَحَلَّةِ إسرائيل. وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا… وَاسْتَحْيَا يَشُوعُ رَاحَابَ الزَّانِيَةَ وَبَيْتَ أَبِيهَا وَكُلَّ مَا لَهَا، وَسَكَنَتْ فِي وَسَطِ إسرائيل إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنَّهَا خَبَّأَتِ الْمُرْسَلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَرْسَلَهُمَا يَشُوعُ لِكَيْ يَتَجَسَّسَا أَرِيحَا”. عدا عن ذلك فإن يَشُوعُ حلف مهدداً: «مَلْعُونٌ قُدَّامَ الرَّبِّ الرَّجُلُ الَّذِي يَقُومُ وَيَبْنِي هذِهِ الْمَدِينَةَ أَرِيحَا. بِبِكْرِهِ يُؤَسِّسُهَا وَبِصَغِيرِهِ يَنْصِبُ أَبْوَابَهَا»، رغم أن سكانها لم يلحقوا أي أذى أو إساءة بشعبه حين كانوا أحياء. (الإصحاح السادس)
كانت المدينة الأخرى التي اقتُضي إبادة سكانها فقط هي “عاي” (التي يُعتَقد أنها منطقة التل) لكن يشوع بدا خائفا قليلا وهو يتقدم في أرض غريبة عنه، فجاءته النجدة من أعلى. نقرأ في الإصحاح الثامن من السفر نفسه تعليمات رب الجنود “يهوه” له وتشجيعه على تكرار ما فعله حتى الآن في مدينة أريحا وسكانها: “فَقَالَ الرَّبُّ لِيَشُوعَ: «لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ. خُذْ مَعَكَ جَمِيعَ رِجَالِ الْحَرْبِ، وَقُمِ اصْعَدْ إِلَى عَايَ. انْظُرْ. قَدْ دَفَعْتُ بِيَدِكَ مَلِكَ عَايٍ وَشَعْبَهُ وَمَدِينَتَهُ وَأَرْضَهُ، فَتَفْعَلُ بِعَايٍ وَمَلِكِهَا كَمَا فَعَلْتَ بِأَرِيحَا وَمَلِكِهَا. غَيْرَ أَنَّ غَنِيمَتَهَا وَبَهَائِمَهَا تَنْهَبُونَهَا لِنُفُوسِكُم. »
يمضي كتبَة هذا السِّفْر مستمتعين في وصف ما فعله يشوع وجنوده بسكان “عاي” بتفاصيل تلقي اللوم على الإله يهوه بالدرجة الأولى، فهو في نهاية المطاف من يأمر وينهي. نقرأ في الإصحاح الثامن من السِّفر نفسه: “وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى إسرائيل (ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذي بدل الرب اسمه إلى إسرائيل) مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ سُكَّانِ “عَايٍ” فِي الْحَقْلِ فِي الْبَرِّيَّةِ حَيْثُ لَحِقُوهُمْ وَسَقَطُوا جَمِيعًا بِحَدِّ السَّيْفِ حَتَّى فَنُوا، أَنَّ جَمِيعَ إسرائيل رَجَعَ إِلَى “عَايٍ” وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. فَكَانَ جَمِيعُ الَّذِينَ سَقَطُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مِنْ رِجَال وَنِسَاءٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، جَمِيعُ أَهْلِ “عَاي”. وَيَشُوعُ لَمْ يَرُدَّ يَدَهُ الَّتِي مَدَّهَا بِالْمِزْرَاقِ (الرمح القصير) حَتَّى حَرَّمَ (أبادَ) جَمِيعَ سُكَّانِ “عَاي”. لكِنِ الْبَهَائِم وَغَنِيمَة تِلْكَ الْمَدِينَةِ نَهَبَهَا إسرائيل لأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ يَشُوعَ. وَأَحْرَقَ يَشُوعُ “عَايَ” وَجَعَلَهَا تَلاًّ أَبَدِيًّا خَرَابًا إِلَى هذَا الْيَوْمِ. وَمَلِكُ “عَايٍ” عَلَّقَهُ عَلَى الْخَشَبَةِ إِلَى وَقْتِ الْمَسَاءِ. وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَمَرَ يَشُوعُ فَأَنْزَلُوا جُثَّتَهُ عَنِ الْخَشَبَةِ وَطَرَحُوهَا عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ الْمَدِينَةِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا رُجْمَةَ حِجَارَةٍ عَظِيمَةً إِلَى هذَا الْيَوْمِ”. (سفر أشعيا، الإصحاح الثامن)
تكرار الماضي
مع سيادة الفكر الأصولي المتطرف الذي راح مستوطنو الضفة الغربية والقدس يطبقونه على أرض الواقع وخضوع الأغلبية العلمانية المقيمة في أراضي فلسطين ما قبل حرب الأيام الستة 1967 لهم منذ اغتيال إسحاق رابين على يد أحد المستوطنين، تجنبا لوقوع فتنة داخلية، أصبحت الإبادة الجماعية التي خفف هذا السِّفْر من وطأتها باستخدام عبارة “حرّم الناسَ بحد السيف” وفي الترجمة الإنكليزية ” To put everyone to the sword ” تقليدا مقبولا داخل إسرائيل من الأغلبية.
لذلك ما نجده اليوم وأمام اندهاش شعوب العالم وصدمتهم بما يشاهدونه من إبادة متواصلة للأطفال بالآلاف، إصرار زعماء إسرائيل على تقليد ما جاء في سفر يوشع واتباع منهجيته في تحريم الأطفال والنساء بالسيف وكبار السن وكل المدنيين الذين شاءت حظوظهم أن يكونوا اليوم في غزة، والأغرب من ذلك استغراب زعماء إسرائيل من ردود فعل العالم لهذا التوحش الذي تجاوز كل المقاييس حتى تلك التي وضعها النازيون الألمان، فالأخيرون كان يرتكبون فظائعهم خفيةً ولم يعرف العالم بها إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لا بد من تذكر أن الأصوليين الملتزمين بتنفيذ عهد الإله يهوه الذي قطعه على نفسه أمام جدهم البطريارك إبراهام بمنح نسله كل أرض كنعان، حريصون على عدم خذل ما قام به من تسلميهم الأرض الموعودة: الضفة الغربية والقدس (السامرة ويهوذا) خلال ستة أيام، فبعد بناء ما يقرب من ألف مستوطنة ما بين شرعية وغير شرعية حسب قوانين إسرائيل ما يجعل أي دولة فلسطينية عليها غير قابلة للحياة، أصبح بتسلئيل سموتريتش وزير المالية الإسرائيلي الحالي قادرا على القول إن أمام الفلسطينيين ثلاثة خيارات فقط: إما قبول العيش ضمن دولة يهودية واحدة بحقوق منقوصة، أو الهجرة خارج فلسطين، أو القتل لمن لا يقبل بالخيارين السابقين.
ولعل الطريق لتحقيق ذلك هو الإبادة الممنهجة البطيئة في غزة والضفة الغربية والقدس للفلسطينيين المُصرّين على النضال من أجل حقوقهم، تسهيلا لتنفيذ وعد إله إسرائيل بكل أرض كنعان لنسل إبراهام وسارة.
وقد لا يكون اليوم بعيدا حين تستطيع إسرائيل المباشرة بتنفيذ وعد الرب الأكبر لإبراهام حين قال له: «لنسلك أعطي هذه الأرض… من نهر مصر إلى النهر الكبير: نهر الفرات. » (سِفْر التكوين، الإصحاح الخامس عشر).