عُقدت طوال الأسبوع الأخير من فبراير 2024، جولات من المفاوضات في موسكو تحت رعاية روسيا، حول انضمام منظمات المقاومة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الممثل الشرعي الوحيد الصادر بشأنها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، كما أن جميع محاولات ما يسمى بالمصالحة الفلسطينية تطرقت إلى إحياء منظمة التحرير، بصفتها المظلة القومية لجميع طوائف الشعب الفلسطيني، وأنا أتفهم وأتعاطف مع هذا الطرح، لكن إذا تعمقنا في التحليل كان لنا رأي آخر.
ذلك أن هذا الطرح أملته ظروف إبادة الشعب في غزة والضفة والاعتداء الإسرائيلي على المقدسات، وكذلك الحاجة إلى الجمع بين المقاومة والسلطة في مظلة جامعة؛ لأن الجمع بين رئاسة السلطة ورئاسة المنظمة كان خطأ كبيراً، فضلاً عن أن إسرائيل نذرت نفسها للقضاء على المقاومة وعلى العرق الفلسطيني معاً. ولهذا الطرح وجاهته في ظل الظروف الراهنة. ومما يُذكر أن المنظمة تفاوضت أيام عرفات مع إسرائيل، وأبرمت إعلان المبادئ الذي رفضته المقاومة، وهو إعلان أوسلو. ونشير أيضاً إلى رفض المقاومة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والمنظمة عام 1993. وخلال رحلة أوسلو تعقدت العلاقات بين السلطة والمنظمة؛ نتيجة أفكار خاطئة حول أوسلو والتنسيق الأمني بين السلطة وبين إسرائيل ضد المقاومة، وفشل كل محاولات التقريب بينهما.
وما دامت إسرائيل أيّدت المنظمة عام 1974، فإن هذا الطرح تزداد وجاهته فإسرائيل مستعدة أن تتفاوض مع المنظمة إذا بعثت وليس مع السلطة أو المقاومة. يضاف إلى ما تقدم أن أبو مازن صرّح مع بداية نوفمبر 2023 بأن حماس لا تمثل الشعب الفلسطينى، ونظر إلى هذا التصريح بالشك في نواياه، سواء كان تأييد مقولة إسرائيل بأن حماس منظمة إرهابية، وأنها حسب رواية السلطة وإسرائيل حكمت غزة بانقلاب وسلخت غزة عن السلطة وعن بقية الأراضي الفلسطينية، المهم أن مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة تمسك بأن حماس لا تمثل الشعب الفلسطينى، وقد عبر بعض وزراء الخارجية العرب عن نفس المعنى في منتدي دافوس، ومعنى ذلك أنني أعتبر أن عدم تمثيل المقاومة للشعب الفلسطيني كما عبرت عنه بعض الأوساط العربية وإسرائيل يحتاج إلى تحليل موضوعي، فمن يمثل الشعب الفلسطينى؟!
لدينا تمثيل شعبي وتمثيل قانوني، أما التمثيل الشعبي فإن المقاومة هي ذراع الشعب الفلسطيني وجيشه، وليست المقاومة منظمة مسلحة تعمل لحسابها ،وليس أعضاء المقاومة هواة أو محترفين كجماعات المافيا، وإنما تتمتع المقاومة بأساسين قانونيين لشرعيتها.
الأساس الأول هو أنها حركة تحرر وطني تتمتع بالحماية القانونية في القانون الدولي، وبالمناسبة فإن الشعب الفلسطيني شعب كامل الأهلية، ومع ذلك أنكرت إسرائيل عليه صفة الشعب حتى تحرمه من الصفة الملازمة للشعب، وهي حق تقرير المصير، ذلك الحق الذي استقر للشعوب في البند الـ11 من مبادئ الدكتور وودرو ولسون الرئيس الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، مقابل ذلك لا يوجد شعب يهودي؛ لأن اليهودية دين، كما لا يوجد شعب مسيحي أو شعب إسلامي، وإنما كلمة الشعب تنبع من وصف سسيولوجي اجتماعي، فالشعب المصري، على سبيل المثال، يتكون من مجموع الأفراد الذين يتمتعون بالجنسية الأصلية والجنسية المكتسبة، ويخرج من هذا التعريف الأجانب الذين لهم مركز قانوني خاص في القانون الدولي، ولذلك نميز بين كلمتين، السكان وتشمل الأجانب، أيضاً والشعب، وتشمل ما ذكرنا، ولذلك نهيب بالإعلام العربي والدولي ألا يستخدم مصطلح الشعب اليهودي، وما دام اليهود يشكلون أساس إسرائيل ويتمتعون بالمواطنة وليس فقط بالجنسية، فإنه لا يوجد شعب إسرائيلي؛ لأن كل اليهود دخلوا إسرائيل، إما تسللاً ضمن المشروع الصهيوني السري، وإما وفقاً لقانون العودة الذي أصدرته إسرائيل عام 1950، ويهود إسرائيل هم أعضاء في المشروع الصهيوني، ومؤسساته وقوانينه تعمل في هذا الاتجاه، ولذلك لا يُعد يهود إسرائيل مدنيين، وإنما ينتظمون في تجمعات عسكرية، وأيضاً في المستوطنات، وتنتفى عنهم صفة الأفراد المدنيين، ولذلك من الخطأ أن نطلق عليهم وصف السكان المدنيين، والأدهى أن يسوى بينهم وبين أصحاب الأرض من السكان الفلسطينيين، وهذا هو ما فعلته كل الحكومات العربية والإسلامية، بل وجنوب أفريقيا، رغم أنها الوحيدة التي تصدت لحملة الإبادة للسكان الفلسطينيين أمام محكمة العدل الدولية.
فالمقاومة هي من الشعب الفلسطيني وتمثل الشعب الفلسطيني من الناحية الدولية، أما من الناحية الداخلية، فإن حماس كبرى منظمات المقاومة، اكتسبت شرعيتها القانونية من خلال اكتساحها الانتخابات التشريعية عام 2006، ولذلك تتمتع المقاومة الفلسطينية بأساسين قانونيين أحدهما داخلي والآخر دولي، فهي مشروعة وتمثل الشعب الفلسطيني على المستوى الداخلي، كما أنها مشروعة على المستوى الدولي، وتمثل الشعب الفلسطيني دولياً، بصرف النظر عن قصور الصور المناسبة للتمثيل قانونياً ودبلوماسياً.
أما المؤسسات الأخرى التي يمكن أن تمثل الشعب الفلسطيني، فهي:
أولاً السلطة، وهذه السلطة كان أساسها أن تكون حكومة محلية للشعب الفلسطيني في جميع الأراضي الفلسطينية على أساس أن منظمة التحرير تشرف عليها وتشرف على تنفيذ اتفاق أوسلو، ولكن السلطة اندمجت في المنظمة، وأصبح لها رئاسة واحدة، كما أن رئيس السلطة ابتدع وظيفتين وهميتين لأوسلو: الوظيفة الأولى هي أن أوسلو هي أساس السلطة، وليس أساسها الانتخابات الفلسطينية، ويترتب على ذلك أن السلطة انتهت بنهاية السنوات الخمس التي حددتها أوسلو للانتقال إلى مفاوضات الوضع النهائي بعد خمس سنوات من دخولها حيز النفاذ أي إنها انتهت عام 1998، كما أن إسرائيل وقعت أوسلو ولم تعد تعترف بها. فالسلطة وأوسلو منفصلتان على أساس أن السلطة حكومة محلية.
الأمر الثاني هو أن رئيس السلطة يريد التعاون مع إسرائيل ضد المقاومة فابتدع ما يسمى بالتنسيق الأمني مع إسرائيل على أساس أن تكون السلطة حارساً لأمن إسرائيل ضد المقاومة، وحتى إذا فسرت أوسلو بهذا المعنى، فإن أوسلو قد انتهت.
المؤسسة الثالثة التي يمكن أن تمثل الشعب الفلسطينى، هى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي تدور حولها مفاوضات موسكو بين فتح وحماس. والمنظمة كانت الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، وكان يقصد بذلك أن الأردن لا يمثل الشعب الفلسطيني، ولكن منذ قرار فك الارتباط الذي اتخذه الملك حسين عام 1988، صارت المنظمة هي الممثل الشرعي وليس الوحيد بعد نشأة حماس عقب الانتفاضة الأولى عام 1987. وعلى كل حال، فإن المنظمة بصرف النظر عن تقييمها من وجهة النظر الفلسطينية لم تعد قائمة منذ عام 2012، أي منذ قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إنشاء الدولة الفلسطينية وكان يجب على الأطراف الفلسطينية أن تلغي السلطة والمنظمة معاً، وتبقي على المقاومة بأنها الوحيدة التي تمثل الشعب الفلسطيني، ولذلك فإن الفلسطينيين يختانون أنفسهم عندما يتحدثون عن إحياء المنظمة وعضوية فصائل المقاومة فيها.