بقي قطاع غزة تحت الإدارة المصرية بغطاء “حكومة كل فلسطين” منذ قيام إسرائيل وحتى العدوان الثلاثي عام 1956، في ذلك العام (الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني) احتلت إسرائيل القطاع وحاولت البقاء فيه، إلا أن رفض السكان ومصر، مدعوماً من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، أجبر إسرائيل على الانسحاب إلى ما وراء خط هدنة 1949، وتم ذلك في السابع من مارس (آذار) 1957.
الاحتلال الثاني للقطاع حصل في حرب يونيو (حزيران) 1967، ففي هذه الحرب الأسوأ في تاريخ الصراع العرب- الإسرائيلي، سيطرت تل أبيب على غزة وشبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس وعلى الضفة الغربية التي كانت تحكمها المملكة الأردنية وعلى هضبة الجولان السورية، ولا تزال.
انتفخت إسرائيل بـ”الممتلكات” المنهوبة، ففرضت وقائع جديدة جعلت المجموعة العربية تسلم المسؤولية عن فلسطين إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي سترتكب أخطاء فادحة في محاولتها جعل الأردن ثم لبنان منصة لها من أجل تحرير الأرض الفلسطينية.
انتهى الاحتلال الإسرائيلي الأول لغزة (1956- 1957) بعودة القطاع لسلطة الحاكم المصري، أما الاحتلال الثاني (1967) فاستمر نحو 38 عاماً، قبل أن تتسلم السلطة الفلسطينية القطاع في أوائل التسعينيات بمقتضى “اتفاقيات أوسلو”، فيعود ياسر عرفات لغزة والضفة، لتنسحب إسرائيل كلياً من القطاع عام 2005.
عاد هذا الشريط الضيق من الأرض الذي يختصر مأساة الشعب الفلسطيني، كونه يستضيف غالبية اللاجئين من أراضي 48، مرتين إلى السيادة العربية ومرة إلى الهيمنة الإيرانية، إلى مصر حتى 1967 ثم إلى منظمة التحرير في 1994، قبل أن تسيطر عليه تيارات “الإخوان” المتحالفة مع إيران في انقلاب حركة “حماس” عام 2007.
الآن وبعد الحرب التدميرية التي أطلقتها إسرائيل رداً على “طوفان الأقصى” يطرح السؤال مرة أخرى، إلى أين ستذهب غزة “الإيرانية” بعد حرب الإبادة والدمار الدائرة بوتيرة لم تهدأ منذ أكثر من ستة أشهر؟ وإلى أين ستتجه القضية الفلسطينية برمتها؟ هل إلى تسوية شاملة تضمن أخيراً قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو ما يطمح إليه الفلسطينيون في معظمهم وتتمسك به المجموعة العربية انطلاقاً من مبادرتها للسلام؟ أم أن جرح غزة سيستمر في النزف استجابة لمقتضيات المصلحة الإيرانية التي لا تعترف بمنظمة التحرير ولا بمشروع الدولة الفلسطينية ولا بالمبادرة العربية، ملتقية بذلك مع الموقف الإسرائيلي في تفاصيله؟.
في حالتي الانسحاب الإسرائيلي السابقتين من غزة تحكمت موازين القوى الدولية والإقليمية بمآلات مصير القطاع، والآن أيضاً ستكون للمعادلات الدولية الكلمة الفصل، إذ انتهت عملية “قادش” الإسرائيلية على سيناء (1956)، ومعها الهجوم البريطاني- الفرنسي، إلى إظهار التوازنات العالمية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية. وحلت أميركا محل القوى الاستعمارية القديمة، بريطانيا وفرنسا، كقوة دولية متقدمة في الشرق الأوسط، ووفر الإنذار السوفياتي سبل التحرك عبر الأمم المتحدة لفرض وقف القتال ثم الانسحاب الثلاثي من سيناء والقنال وغزة التي احتلتها إسرائيل في الـ16 من مارس 1957 لتعود إلى الحكم المصري.
تجربة الاحتلال الإسرائيلي الثانية امتدت طويلاً منذ يونيو (حزيران) 1967 حتى عام 1994، عندما قررت منظمة التحرير المهزومة في لبنان إثر اجتياح 1982 الذهاب إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل بدعم أميركي، مستندة إلى وقائع الانتفاضة الأولى التي انطلقت من غزة في 1987، لتكون النتيجة “اتفاقيات أوسلو” وعودة أركان المنظمة لفلسطين بدءاً من غزة.
والانتفاضة عام 1987 لم تكن حدثاً منفصلاً، هي جاءت استمراراً لتاريخ طويل من الانتفاضات الفلسطينية – الغزية منذ الخمسينيات.
عندما ثار فلسطينيو غزة ضد مشاريع أشيع أنها تعد لإسكان الفلسطينيين في شمال غربي سيناء، قاد التحركات الفلسطينية شيوعيون (من أبرزهم معين بسيسو) وإسلاميون، وتحرك هؤلاء باتجاه الإدارة المصرية للقطاع مطالبين بالسلاح، وكان الرد المصري تشكيل الكتيبة الفدائية 141 بقيادة البكباشي مصطفى حافظ الذي ستغتاله إسرائيل في يوليو (تموز) قبل أشهر قليلة من حرب السويس.
في تلك المرحلة كانت المقاومة قضية مصرية حكومية، ولم تكُن حركتا “فتح” و”حماس” ولدتا بعد، هما اللتان ستتصدران المشهد بعد عودة السلطة الفلسطينية للقطاع في 1994، وسيقود صراعهما الدموي إلى سيطرة “حماس” على القطاع في 2007 وتوجيه ضربة قاضية لمشروع السلطة الوطنية، في استجابة موضوعية لما أرادته إسرائيل دائماً.
بدأت ملامح المرحلة الجديدة من الصراع على غزة وعلى القضية الفلسطينية تتخذ أبعاداً جديدة ابتداءً من ذلك التاريخ، فكانت أنظمة عربية عدة حاولت وضع يدها على المشروع الفلسطيني وجاء إفشال هذا المشروع في غزة على يد حلفاء إيران ووسط ترحيب إسرائيلي، لينقل عنوان “القضية” إلى طهران وحساباتها، إذ كان المشهد قبل ذلك يتسع لأطراف أربعة رئيسين إسرائيل ومنظمة التحرير ومصر والولايات المتحدة، لكن سيطرة “حماس” وحركة “الجهاد” على غزة كانت إيذاناً بدخول قوي على الخط لإيران وما سيعرف لاحقاً بـ”محور الممانعة”.
لقد حاولت دول عربية، أبرزها السعودية ومصر والجزائر، معالجة الانقسام الفلسطيني والإصلاح بين الحركتين الفلسطينيتين “حماس” و”فتح”، لكن جهودها ذهبت سدىً، وكان ذلك مقدمة لانفراد حماس” ومعها “الجهاد” في شن معركة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
إيران كانت حاضرة، هي التي نفت علمها بالهجوم، وسبقها الأميركيون في تبرئتها، فرحبت به باعتباره رداً على اغتيال قاسم سليماني ونسفاً للتطبيع العربي- الإسرائيلي وتفجيراً لمشاريع خطوط النقل العالمية الجديدة، خصوصاً الممر الهندي- الإماراتي إلى المتوسط الذي يؤثر في ممراتها الخاصة وطموحها في التحول إلى عقدة اتصال بين آسيا وأوروبا.
تبنت إيران معركة “المقاومة” في غزة ودفعت وكلاءها إلى خوضها في حروب مشاغلة ومساندة في لبنان واليمن والعراق، لكنها أبقت نفسها بعيدة من التورط بصورة مباشرة، استعداداً لدور لاحق في المساومة حول غزة وفلسطين لضمان موقعها ونفوذها في الإقليم.
لقد وفرت تنظيمات “محور الممانعة” في فلسطين ودول عربية أخرى لإيران إمكان احتلال الموقع المساوم الحالي، فيما جعلت السياسة الأميركية المتبعة منذ عهد الرئيس باراك أوباما من نظام الملالي طرفاً طموحاً يعتقد بقدرته على فرض شروطه وتثبيت ما يعتبره مكاسب إقليمية.
لكن سير المعارك في قطاع غزة ونتائجها جاءت كارثية على الشعب الفلسطيني، فقتل عشرات الآلاف ودمرت المدن والمخيمات وعاد الاحتلال الإسرائيلي المباشر للمرة الثالثة إلى هذا الجزء من الأرض الذي يفترض أن يكون مع الضفة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، ومع ذلك لم تعدل إيران في سلوكها ما دام أن الآخرين يدفعون الثمن.
وهي تراهن الآن على استمرار القتال في غزة وتضبط إيقاع أذرعها تحت سقف عدم تورطها المباشر، وجعلت وكلاءها في “محور المقاومة” يفوضون “حماس” التحدث باسمهم في المفاوضات الدائرة في الدوحة والقاهرة وباريس، ومن ذلك إعلان الحوثيين أن طاقم سفينة يحتجزونها هو بتصرف “حماس” التي لا يبخل قادتها ومعهم قادة “الجهاد” في إعلان الولاء لإيران ومرشدها.
الأسبوع الماضي حضرت قيادتا المنظمتين إلى طهران لتستمعا إلى توجيهات الإمام الخامنئي وأركانه، ولتكررا آيات الولاء والتبجيل لهم، والزيارة جاءت في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن حول وقف النار في غزة، وبعد اتصالين من وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان بكل من إسماعيل هنية وزياد النخالة.
وفي لقاءات طهران لا جديد غير رغبة طهران في مواصلة القتال، فخامنئي طمأن النخالة أن “قوى المقاومة وأهالي غزة هم المنتصرون، وهذه ظاهرة إلهية”، أما رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري فأبلغ هنية تمنياته بأن “نشهد تحرير القدس ببركة دماء قاسم سليماني”، وعلى هذا رد النخالة أن ما يحصل في غزة “هو في الحقيقة تكرار لحادثة كربلاء”.
لم تتضح معاني وجود قيادة التنظيمين في إيران في هذا التوقيت، لكن مما لا شك فيه أن طهران تعتبر خسارتها في غزة انهياراً لمشروعها الأبدي في الإمساك بشرق المتوسط، كما أن نجاح الجهود الأميركية والعربية في الدفع نحو تسوية سلمية دائمة على قاعدة الدولتين لن ينزل عليها، هي التي ترفضه، برداً وسلاماً.
وفي كل ذلك يلتقي نهجان لا يريدان سوى الموت لشعب فلسطين، نهج نتنياهو وحكومته المتطرفة، والنهج العدمي الذي تقوده إيران، مما يفرض على القوى المعنية بالصراع، العربية والدولية، وقبلها الفلسطينية، العمل الجاد للخروج من ثنائية الموت هذه.