ملفات فلسطينية

من صدور وعد بلفور إلى صدور قرار التقسيم

كان الوعد المشؤوم، وكذلك قرار التقسيم، بمثابة حكم إعدام على الشعب الفلسطيني، بنفي وجوده وإنكار حقوقه الوطنية في مقدمتها حق تقرير المصير، بناء على ما جاء في صيغة وعد بلفور باعتبار شعب فلسطين مجرد طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين.

يحفل التاريخ الفلسطيني بالكثير من مناسبات وأحداث وطنية، مؤلمة وكفاحية على حد سواء، من ذكرى الانتفاضات والثورات، والعمليات الفدائية والتضحيات، وذكرى الشهداء والبطولات، وذكرى المذابح والمجازر، إلى ذكرى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، والقرارات والمواقف الوطنية.

ويحفل شهر تشرين الثاني/ نوفمبر بالعديد من الأحداث والمناسبات الوطنية، منها المؤلمة، كذكرى وعد بلفور المشؤوم الذي صدر في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، وذكرى صدور قرار تقسيم فلسطين «القرار 194» الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1947، وتحديداً في 29 منه، والذي أصبح اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، الذي أقرته الامم المتحدة في عام 1977، وهو ذات اليوم الذي قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2012 الاعتراف بدولة فلسطين كعضو مراقب بطلب من السلطة الفلسطينية.

جاء هذان القراران، أولاً: للتأكيد على أن القضية الفلسطينية بقيت دون حل بسبب عجز وفشل الأمم المتحدة في تطبيق قراراتها لإنصاف شعب فلسطين، ثانياً: اعترفاً من قبل غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بمسؤوليتها المباشرة عن تدمير فلسطين عامي 1947-1948، وعن الأزمة المستمرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، واعترافاً من الأمم المتحدة بالظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وبمسؤوليتها عما نتج جراء إصدار قرار التقسيم والذي أدى إلى شن حرب التطهير العرقي التي نظمتها العصابات الصهيونية، الأمر الذي قاد إلى النكبة الفلسطينية عام 1948، وإعلان قيام دولة إسرائيل على معظم أرض فلسطين التاريخية، والتهجير الجماعي للسكان الفلسطينيين تحت تهديد السلاح، ثم مصادرة بيوتهم وأراضيهم وأملاكهم وفق قانون أصدرته سلطات الاحتلال سمته قانون أملاك الغائبين.

قرار التقسيم الأممي والوعد المشؤوم البريطاني، يتباعدان ثلاثة عقود من السنوات، لكن كلاهما يلتقيان في الإقرار ببناء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، على حساب شعبها وطموحاته السياسية والوطنية وحقه في تقرير مصيره وإنشاء دولته المستقلة على أرضه التاريخية.

كان الوعد المشؤوم، وكذلك قرار التقسيم، بمثابة حكم إعدام على الشعب الفلسطيني، بنفي وجوده وإنكار حقوقه الوطنية في مقدمتها حق تقرير المصير، بناء على ما جاء في صيغة وعد بلفور باعتبار شعب فلسطين مجرد طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين، تناغمت مع الشعار الصهيوني فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. بينما شرعن قرار التقسيم إطلاق الرصاص على الشعب الفلسطيني، وشجع الحركة الصهيونية على إطلاق حملة إبادة وتطهير عرقي نفذتها العصابات الهاغانا والشتيرن وغيرهما، وما تزال تُمارس حتى الآن، بعد مرور 77 عاماً على النكبة والمأساة الفلسطينية.

عند صدور وعد بلفور، كان اليهود أقليّة في فلسطين، عددهم لا يتجاوز 5% من إجماليّ سكان فلسطين، مبعثرين على مساحة فلسطين، يفتقدون إلى الوحدة الجغرافية، وحتى أواخر العام 1947، عند صدور قرار التقسيم ورغم الهجرات اليهودية المكثفة، لم يتجاوزوا نصف عدد السكان الفلسطينيين البالغ مليون ونصف المليون نسمة، هذه الأقلية اليهودية أقامت في تجمعات سكنية متباعدة غير متواصلة، حتم إنشاء كيان قابل للحياة ضرورة القيام بالتطهير العرقي بأبشع صوره لتحقيق مشروعهم أمام تعلق الشعب الفلسطيني بأرض وطنه وصلابته في مقاومة المشروع الصهيوني، واليوم تبدو الصورة مقلوبة حيث يعيش الشعب الفلسطيني على أرضه بمعازل منفصلة يقوم بينها حواجز ومستعمرات وجدار عازل، مما يجعل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أمراً مستحيلاً.

ما كان للوعد ولا لقرار التقسيم أن تتحقق أهدافهما دون حرب إبادة جماعية سمتها الحركة الصهيونية حرب الاستقلال، ممن؟. من الاحتلال الفلسطيني؟. وهو الواقع تحت الاحتلال، وحلت به النكبة، أم من الاحتلال البريطاني؟. الذي لولاه ما قام لهم كيان.

من ذكرى شهداء فلسطين، والتي نحييها كل عام في هذا الشهر، ذكرى استشهاد الشيخ عز الدين القسام، وذكرى استشهاد ياسر عرفات في الحادي عشر من تشرين الثاني / نوفمبر من العام 2004.

في شهر تشرين الثاني نتذكر الشهيد، ونتذكر الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس الشهيد ياسر عرفات في 13 تشرين الأول نوفمبر 1974، كان يوماً تاريخياً حين ألقى خطابه التاريخي في الأمم المتحدة، والذي قدم للعالم للمرة الاولى الرؤية الفلسطينية لحل قضية فلسطين، وأكد على أننا « نفرق بين اليهودية وبين الصهيونية، وفي الوقت الذي نعادي الحركة الصهيونية الاستعمارية، فإننا نحترم الدين اليهودي، لأنه جزء من تراثنا، وإننا نحذر اليوم وبعد قرابة قرن من بروز هذه الحركة العنصرية، أن خطرها يتزايد ضد اليهود في العالم، وضد شعبنا العربي، وضد أمن العالم وسلامته، فالصهيونية لا تزال متمسكة بتهجير اليهود من أوطانهم، واصطناع قومية عنصرية عدوانية لهم يستبدلون بها قومياتهم الأصلية، إن الصهيونية تتابع نشاطها التخريبي هذا على الرغم من ظهور فشل الحل الذي قدمته، وإن ظاهرة النزوح من هذا التجمع الإسرائيلي المستمر منذ قيامه والى الآن والتي ستقوى مع سقوط قلاع الاستعمار الاستيطاني العنصري في العالم لدليل أكيد على هذا الفشل».

يبطن الخطاب في مضمونه أن الصراع في فلسطين بدأ قومياً ثم ظهر وكأنه صراع ديني بفضل التحريض الاستعماري البريطاني والصهيوني والفتن التي دبروها، وانخدع بنتيجتها من انخدع من وجوه إسلامية بارزة، ساهمت هي أيضاً بدورها في تضليل فئات شعبية كان يسودها الأمية والجهل، وكانت القيادة الفلسطينية منقسمة على نفسها، عائلة الحسيني وأنصارها، وعائلة النشاشيبي وأنصارها، نشب بينهم صراع استخدم فيه الدين لإضعاف الخصوم، وأدخل الدين عنصراً في الحركة الوطنية الفلسطينية، فظهرت وكأنها ضد اليهود لا الإمبريالية البريطانية والحركة الصهيونية، وأصبح يستساغ أن يكون لمن يعقد صداقة مع الإنكليز ويروج لمطالبهم أن يكون له شأن في الحركة الوطنية الفلسطينية إذا كان مناوئاً لليهود، وحتى العام 1929 واصلت الحركة الوطنية الفلسطينية نشاطها السياسي على شكل مؤتمرات ووفود تحج إلى لندن وتحاول إقناع المسؤولين فيها بعدالة القضية الفلسطينية الذين تظاهروا بتأييد العرب ضد الصهيونية.

اقرأ أيضا| ذكرى الاستقلال ومؤامرات تصفية الدولة الفلسطينية

عز الدين القسام الذي استشهد في معركة مع الجنود البريطانيون في أحراش يعبد، 20 تشرين الثاني/  نوفمبر1935، رغم أنه إمام وخطيب جامع حيفا الكبير ذو شخصية إسلامية، لكنه وأنصاره أدركوا أن المعركة هي مع الامبريالية البريطانية والصهيونية لا مع اليهود، وعلى هذه العقيدة فجّر القساميون ثورة 1936، ولو مضت هذه الثورة  إلى أهدافها دون مهادنة، لما رأينا دولة الكيان الصهيوني، رغم كل أشكال تعاون وتآمر بريطانيا مع الحركة الصهيونية والدول الاستعمارية الأخرى.

وكان العامل الأول في الفشل في تحقيق أهدافها ضعف القيادة الفلسطينية، ليس جراء الانقسام فقط -والتي نرى اليوم ما يشابهها من انقسام حالي في الساحة الفلسطينية يبدو كأنه عصي على الحل، يضعف حركة التحرر ويربك حساباتها- بل واستمدت ضعفها أيضاً من تبعيتها لأنظمة عربية، هزيلة وضعيفة، تميل في أغلب الأحيان إلى تصديق أن بريطانيا حيادية في الصراع العربي الصهيوني على أرض فلسطين، ما أدى في الكثير من الأحيان إلى إقناع القيادة الفلسطينية للتنازل أو للتوقف عن فعل ثوري معين، بهدف إعطاء بريطانيا فرصة من أجل إيجاد حلّ للصراع الدائر، كما كان عند إنهاء الإضراب الفلسطيني الشامل عام ١٩٣٦ الذي استمر لمدة ستة أشهر كاملة، كما يحدث الآن في تمسك قيادة السلطة الفلسطينية بالحلول الأميركية وهي حليف استراتيجي للعدو الصهيوني، ويقبل بها المفاوض الفلسطيني كوسيط في وقف إطلاق النار، وهي من تقود العدوان على الشعب الفلسطيني.

ثلاثون عاماً بين وعد بلفور وقرار التقسيم، فترة شهدت احتجاجات وصدامات وثورات عظيمة، كافح الفلسطينيون وقدموا التضحيات العظيمة لمنع تطبيق وعد بلفور، رفضوا وقاوموا سياسة بريطانيا لزيادة أعداد اليهود عبر هجرات متواصلة إلى فلسطين وتمكينهم من الاستيطان والاستيلاء على الأرض، ولجأ السياسيون البريطانيون إلى الخديعة والكذب لتهدئة الخواطر والنفوس، مستغلة القيادة الفلسطينية المهادنة التي كانت ترى في بريطانية صديق يجب استمالته لصالح العرب وإبعادها عن الحركة الصهيونية، ومستغلة أيضاً حالة الدول العربية وحكامها، الخاضعة بلادهم للنفوذ الاستعماري البريطاني و الفرنسي، استعانت بريطانيا بالحكام العرب لإقناع الزعامات الفلسطينية بوقف الثورة وبحسن نوايا «الصديقة» بريطانيا ورغبتها بإنصاف الشعب الفلسطيني.

في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، يحيّي الفلسطينيون يوم الاستقلال الفلسطيني، الذي أقرته دورة المجلس الوطني الفلسطيني، الـ19 المنعقدة في العاصمة الجزائرية في العام 1988، تلا وثيقة الاستقلال الرئيس الشهيد ياسر عرفات معلناً قيام دولة فلسطين، هذه الوثيقة وإن كانت على الورق حتى الآن، إلا أن كفاح الشعب الفلسطيني وصموده سيحولها إلى حقيقة، نحتفل بها في نوفمبر القادم بعيد الاستقلال ورحيل آخر صهيوني عن أرض الوطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى