ليست مهمة معرفة من سيحكم غزة بعد الحرب، وقد لا يكون السؤال –أصلاً- يحمل الطبيعة الاستعجالية في الإجابة عنه حالياً، من منظور واقعي عام. فليس بـ«حماس» تحيا غزة أو تموت، ولعلَّ خروج «حماس» من المشهد السياسي يكون مفيداً للشعب الفلسطيني وإنهاء الانقسام في نظر البعض، ولكن يبقى هذا خياراً فلسطينياً خالصاً، وليس لغالانت ولا غيره أن يقرِّر من سيحكم غزة نيابة عن الفلسطينيين.
ويبقى السؤال الأهم: هل ترضي خريطة بايدن طرفَي القتال في غزة، برغم عدم تكافؤ الطرفين في القوة والعتاد؟ تلك الخريطة التي شعارها «وقف مستدام لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الرهائن» بخطواتها الثلاث. أعتقد أن بايدن ما كان له أن يعلن عنها ما لم يلمس موافقة مسبقة من الإسرائيليين قبل الفلسطينيين عليها، وخصوصاً أنه هو القائل إنها نتيجة «الدبلوماسية المكثفة التي قام بها فريقي ومحادثاتي المكثفة مع قادة إسرائيل وقطر ومصر ودول شرق أوسطية أخرى».
فهل «حان وقت انتهاء هذه الحرب»، بعد هذه الفاتورة الباهظة من الضحايا والجرحى؟ وهل أصبحت الإدارة الأميركية أكثرَ قناعة بضرورة إنهاء الحرب، وبأن الأهداف تحققت من المنظور الأميركي؟ والمرحلة الثانية تتضمن «إنهاءً» دائماً للأعمال العدائية، وتبادل إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين، حتى الجنود الذكور، وانسحاب القوات الإسرائيلية من «غزة». ولكن يبقى السؤال: أي غزة؟ أو أي جغرافيا لغزة؟ بعد أن رسمت ولونت إسرائيل 3 خطوط -من بينها «محور» فيلادلفيا- باللون الأحمر.
خريطة بايدن -إن صحَّت تسميتها- تعد جزءاً من مفاوضات سابقة، وليست بنودها بالجديدة، ولكن تعنُّت نتنياهو ووزير حربه بالرفض، هو الذي تسبب في تأخير أي صفقة ممكنة، والتركيز على «نهاية دائمة لهذه الحرب»، وليس مجرد وقف إطلاق نار هش ينتهي باعتقال كل من أطلقت إسرائيل سراحهم في الصفقة، بعد أن يعود جميع الرهائن إلى بيوتهم، وهذا ما تخشاه «حماس» وبقية الفصائل، وهو الخوف من نكث الاتفاق والتنكر له من قبل نتنياهو، وخصوصاً وهو يجاهر بالرفض صحبة وزير حربه.
فلا يمكن القبول «بالتفاوض» في منتصف المراحل، أي بعد المرحلة الأولى، مما يعد تفخيخاً للمراحل جميعها. وإذا اعتبرنا أن الشيطان يكمن في التفاصيل -كما يقال- فهناك التفاصيل الكثيرة في المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف القتال في غزة، والتي تتضمن أن المرحلة الأولى فيها تكون لمدة 6 أسابيع.
وتشمل: وقفاً كاملاً لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية من جميع المناطق «المأهولة» بالسكان في غزة. وهنا نقف عند «المأهولة»؛ أين هي المناطق المأهولة، وثلاثة أرباع غزة بين مدمر ومهجَّر ونازح في رفح؟ فهل يعني هذا أن إسرائيل ستنسحب فقط من رفح؛ كونها الوحيدة المـأهولة بالسكان؟! فجغرافيا السكان في غزة تغيرت.
قبل أن تضع الحرب أوزارها، وقد شارفت على ذلك رغم تعنت تصريحات مكتب نتنياهو بالنفي المستمر، فإن نهاية الحرب باتت وشيكة، مع اختلاف سيناريو إخراج النهاية، ويبقى السؤال الذي يؤرق إسرائيل وحلفاءها -وخصوصاً أميركا- هو: «من سيحكم غزة»؟
في اعتقادي: الوقت الآن الأولوية فيه للعمل الإنساني، وإيواء النازحين، وإعادة الحياة، وإيقاف الحرب، أما من سيحكم غزة فهذا حق أصيل للغزاويين، ولأهل غزة اختيار من يحكمهم، ويتحملون وحدهم نتائج حكمه، وإن أصبحت غزة أكواماً من الدمار والركام، وليست في حاجة لمن يحكمها؛ بل في حاجة لمن يعمرها بعد هذا الخراب. لكن يوآف غالانت كشف أن الفلسطينيين «هم من سيديرون شؤون قطاع غزة، بشرط ألا يكونوا معادين لدولة إسرائيل ولا ينشطون ضدها»، وهذه المعادلة صعبة التحقيق، فليس السيد يوآف غالانت بالمنتصر في الحرب ليفرض شروطه؛ بل إنه خضع للتفاوض والقبول، وبالتالي اختلاف سيناريو نهاية الحرب في غزة بين المنظور الأميركي الذي يرى إضعاف قدرات «حماس» العسكرية، وإطلاق الأسرى أو المحتجزين، وبالتعبير الأميركي: التفاوض صفقة مربحة للطرفين.
بينما معسكر و«كابينت» نتنياهو يرى أنه لا بد من اجتثاث «حماس»، وهذا –عملياً- ضرب من الخيال، وأعده تعلية سقف مطالب ليس إلا؛ لأن اجتثاث «حماس» ليس واقعياً بالمطلق، ولكن من الممكن إضعافها، وهذا ما التقطته الدبلوماسية الأميركية واكتفت به.
تجاهل الحق في الحياة للمدنيين الذين أصبحوا ضحايا بين الطرفين دون أدنى احترام لقواعد الاشتباك، هو العنوان الغائب في المرحلة الماضية والحالية، ضمن سياسة إفراغ الأرض من سكانها. ويبقى إيواء النازحين وإعادة المهجَّرين وإعمار غزة مقدَّماً على من سيحكمها، كما جاء في المرحلة الثالثة من خريطة بايدن التي تتضمَّن خطة إعادة إعمار كبرى لغزة، وإعادة ما تبقى من رفات الأموات.