من العراق إلى لبنان.. مسار النُّخب الحاكمة
في لبنان، فإن الطرف الساعي إلى الهيمنة لا يتوقف عن محاولات إعادة كتابة التاريخ وفقاً لشروطه، فهو ينكر تأسيس الكيان ويحاول إعادة تصفيره ومحاسبة الاستعمار على ما يعتبره تهميشاً له قبل أكثر من قرن، قافزاً فوق اتفاق الطائف والمناصفة
من العراق إلى لبنان، تتقارب التواريخ وتتقاطع الأحداث ولكن تختلف فقط بالأسماء، لدرجة يمكن معها وصف تاريخ البلدين الحديثين، أي منذ تأسيسهما قبل أكثر من قرن تقريباً، بأنه تاريخ مشترك لدولتين، أو تاريخان مشتركان لبلد واحد؛ فلو أراد أي مقتبس للأفكار بكل بساطة أن يبدل اسم العراق ويضع لبنان، في مقال الأستاذ حازم صاغية بعنوان «كأن العراق يتأسس من صفر ولا يتأسس»، في هذه الصحيفة، بتاريخ 2 يونيو (حزيران) الحالي، لما وجد ضرورة إلا لتغيير أسماء الفاعلين حتى يصبح الاقتباس كأنه عن لبنان في ماضيه الثقيل وحاضره الصعب.
ففي الحالتين العراقية واللبنانية، هناك جهات أو أطراف، وفي تواقيت وأحداث متباعدة، بذلت وتبذُل جهداً كبيراً من أجل إنكار التشكيل جغرافياً وديموغرافياً أو احتكاره، ولا تتردد عند كل مفصل، أو كلما زاد استشعارها للقوة، في العبث بالهوية التأسيسية الأولى للكيانين التي تشكلت على عجل في ظل الاستعمار، ثم أخفقت الدولة الوطنية الحديثة في تثبيتها؛ إما بسبب خلل ما سبَّب اجتزاء في سرديتها، وإما نتيجة انقلاب العسكر، كما في العراق، وإما بسبب الدفاع عن الامتيازات الطائفية، كما في لبنان. ولكن في النهاية كانت المفارقة أن أحداث سنة 1958 التي تزامنت مع سقوط الملكية بالعراق، أدَّت في لبنان إلى تسليم النخبة السياسية اللبنانية السلطة إلى شخصية عسكرية، الرئيس الراحل فؤاد شهاب الذي نجح في تأمين الدولة والحفاظ بنسبة عالية على مدنية مؤسساتها، ولكنه استعان بجنرالاته في إدارتها.
فؤاد شهاب، بما له وما عليه، ورغم سطوة جهازه الأمني، يعود الفضل إليه في بناء مؤسسات الدولة، ومَن انتقدوه كانوا ضمنياً، ومن ثم علانية، يرفضون خطواته الجريئة في دمج الطوائف وتوسيع شراكتها؛ فعهد الشهابي الذي جاء رداً على أول حرب أهلية مصغّرة، المعروفة بـ«أحداث 1958»، التي كانت بمثابة التحذير المُبكر من حرب أهلية أوسع وقعت سنة 1975، نتيجة تمسك اليمين اللبناني بامتيازاته واستخدام القوة للحفاظ عليها، بينما استسهل اليسار المواجهة، وحاول انتزاعها بالقوة أيضاً.
في انقلاب 14 تموز دخل العراق مرحلة دموية من تاريخه لم تزل مستمرة حتى الآن على يد الجنرال عبد الكريم قاسم الذي فتح شهية البعث الذي أزاحه بانقلاب أكثر دموية، ولم يرحل إلا باحتلال أكثر فظاعة، لم تزل تداعياته الهوياتية والثقافية والاجتماعية والسياسية مستمرة، بعد أن سلَّم العراق إلى نخبة سياسية تمتهن تفكيك الدولة والاعتناء بالهويات الفرعية، وتعمل على محو تاريخ كل مَن سبقها، وتخوض حروباً داخلية، وتُشاغِب خارجياً بالإنابة أو بالوكالة.
في توصيف الحالة العراقية، يقول حازم صاغية إنه «بطبيعة الحال فإن الولع بالحقيقة أو الولاء لتاريخ موضوعي هو آخِر ما يعني الأطراف المتساجلة. وإذا كان الوعي الأهلي، الطائفي أو الإثني، ما يقود دفة المهاترة، يبقى أن مسؤولية الطرف الساعي إلى الهيمنة تفوق كثيراً مسؤولية الأطراف التي تحاول صدها».
وفي لبنان، فإن الطرف الساعي إلى الهيمنة لا يتوقف عن محاولات إعادة كتابة التاريخ وفقاً لشروطه، فهو ينكر تأسيس الكيان ويحاول إعادة تصفيره ومحاسبة الاستعمار على ما يعتبره تهميشاً له قبل أكثر من قرن، قافزاً فوق اتفاق الطائف والمناصفة، ويلجأ إلى المطالبة بالعد أحياناً، إذا واجه مأزقاً ديموغرافياً أو التلويح بفائض القوة، كلما حاصرته «الصيغة»، فلا يتردد في تعطيل الدستور وإفراغ مؤسسات الدولة ومصادرتها واحتكار الهوية الوطنية وافتعال تواريخ تأسيسية جديدة نسب إنجازها له وحده.
من الانقلاب على الشهابية الذي بدأ سنة 1970؛ بوصول الرئيس الراحل سليمان فرنجية، حتى نهاية الحرب الأهلية، ومِن بعدها إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى انتفاضة تشرين، لم يزل الانقسام محتدماً حول كتاب التاريخ الموحَّد، وعلى الانتماء والهوية والدستور والمؤسسات، ولم تزل النُخب الحاكمة تحت تأثير القناصل والمشاريع الخارجية والهيمنة على الدولة.