وأخيرًا، طُويَ ملف إجرام نظام آل الأسد الذي امتد لأكثر من نصف قرن بهروب بشار الأسد، لتُطوى معه صفحة سوداء من تاريخ سوريا الحبيبة. لكن ما يميّز هذا التحرر هو أنه لم يأتِ على ظهر دبابات محتل، كما حدث في العراق عام 2003، بل تحقق بسواعد أبناء سوريا الشجعان من مختلف أطيافهم وانتماءاتهم، رغم الأدوار الداعمة لبعض الدول. ومع ذلك، بقيت الأرض السورية طاهرة من خطى المحتلين.
لقد كانت البداية للسوريين موفقة؛ انتفاضة سلمية أظهرت خطابًا وطنيًّا جامعًا وملهمًا.. إلا أن الانتصار العسكري والسياسي هو مجرد خطوة أولى في رحلة طويلة نحو بناء مستقبل مستدام.
وهنا يبرز السؤال الأهم: كيف يمكن للسوريين أن يُكملوا الطريق دون أن يقعوا في فخاخ المراحل الانتقالية التي ابتُليت بها دول أخرى في المنطقة؟
اقرأ أيضا.. العراق بين أكاذيب الماضي و”تريند” الحاضر وضباب المستقبل
اعتماد بعض النخب السياسية العراقية على السياسات الطائفية أدى إلى تمزيق النسيج الوطني، وتعميق الانقسامات المجتمعية.. على النخب السورية التركيز على بناء خطاب وطني جامع
الدرس العراقي
إن تجربة العراق بعد سقوط نظام صدام حسين تُعد درسًا غنيًّا بالتجارب التي ينبغي على السوريين تأملها بعمق لتجنب تكرارها. وقد قيل “تعلمت الأخلاق من فاقديها”، فإن الأخطاء العراقية يمكن أن تكون دليلًا عمليًّا لما يجب أن يتجنبه السوريون في مسيرتهم نحو بناء وطنهم الجديد.
مضى على التغيير في العراق أكثر من عقدين، لكن:
ما زالت المناطق المتنازع عليها متنازعًا عليها.
ما زال العرب يريدون أن يغلبوا الأكراد، والأكراد يريدون أن يغلبوا العرب.
السلطة الجديدة اجتثت حزب البعث، لكنها ما زالت ترتعد خوفًا من اسم حزب البعث.
وضعت السلطة قوانين، مثل “المادّة 4 إرهاب” و”المخبر السري” وغيرهما، لكن ما زالت هناك مناطق لا تستطيع الحكومة دخولها، ومناطق لا يمكن لأهلها العودة إليها، ومخيمات المهجرين داخل البلاد منصوبة، وعشرات الآلاف من المفقودين لا يُعرف مصيرهم.
مضى أكثر من عقدين، وما زال الشيعة يعتقدون أنهم على حق، والسنة يعتقدون أنهم على حق.
والأهم من كل هذا، مضى أكثر من عقدين ولم يصلوا حتى الآن إلى نتيجة بشأن ما إن كان الإمام علي بن أبي طالب هو الخليفة الأول أم الرابع.
رغم امتلاك العراق ثروات هائلة من النفط وموارد طبيعية أخرى، فإن الفساد المستشري في الطبقة الحاكمة حوّل شعبه إلى أحد أفقر الشعوب. على السوريين وضع أنظمة رقابة صارمة لمحاربة الفساد بجميع أشكاله
من أبرز أخطاء العراقيين التي يجب أن يتجنبها السوريون:
الطائفية: اعتماد بعض النخب السياسية العراقية على السياسات الطائفية أدى إلى تمزيق النسيج الوطني، وتعميق الانقسامات المجتمعية.. على النخب السورية التركيز على بناء خطاب وطني جامع، يحترم التنوع ويعزز الوحدة الوطنية، بعيدًا عن المحاصصة الطائفية أو الإثنية.
العمالة والتبعية: اعتماد بعض الأطراف العراقية على دعم قوى خارجية أدى إلى تقييد سيادة القرار الوطني، وتحويل العراق إلى مجرد ورقة على طاولة قمار السياسات الدولية.. يجب على السوريين تجنب هذا الفخ، والمحافظة على استقلالية قرارهم الوطني بعيدًا عن هيمنة أي قوة خارجية.
الفساد الاقتصادي: رغم امتلاك العراق ثروات هائلة من النفط وموارد طبيعية أخرى، فإن الفساد المستشري في الطبقة الحاكمة حوّل شعبه إلى أحد أفقر الشعوب. على السوريين وضع أنظمة رقابة صارمة لمحاربة الفساد بجميع أشكاله، والتركيز على بناء اقتصاد قوي ومستدام يعيد الثقة إلى المواطنين.
تصدي غير الأكفاء للمناصب: كان تمكين غير الكفوئين في العراق من المناصب الحساسة على أساس المحسوبيات والولاءات والانتماءات سببًا في إضعاف الدولة وعرقلة إعادة البناء.. يجب أن تكون الكفاءة المعيار الأول في اختيار القادة والمسؤولين في سوريا الجديدة، بعيدًا عن المحسوبيات أو الولاءات الضيقة.
غياب الرؤية الإستراتيجية: افتقدت العملية السياسية في العراق لرؤية واضحة لبناء الدولة، ما أدى إلى فوضى في الأولويات وتخبط في السياسات.. يحتاج السوريون إلى وضع رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تشمل إعادة الإعمار، وتحقيق العدالة الانتقالية، وتأسيس مؤسسات دولة قوية تقوم على سيادة القانون.
الدرس العراقي لسوريا ليس مجرد تحذير من تكرار الأخطاء، بل يتمثل في “أولوية بناء دولة المواطنة، وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، بعيدًا عن الطائفية والانقسامات الداخلية”
نحو سوريا المستقبل
إن التجربة السورية في إسقاط النظام القمعي كانت تجربة فريدة، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة هذا النصر إلى واقع ملموس، يعيد للسوريين كرامتهم، ويضمن لأجيالهم القادمة حياة كريمة ومستقرة.
على النخب السياسية والمجتمعية السورية أن تتبنى نهجًا شفافًا وشاملًا يضمن مشاركة الجميع في بناء الدولة، مع الاستفادة من دروس الماضي، القريب منه والبعيد. فبينما انتهت مرحلة الظلم والاستبداد، يبدأ الآن اختبار الإرادة الجماعية في بناء وطن يحتضن جميع أبنائه دون تمييز.
الدرس العراقي لسوريا ليس مجرد تحذير من تكرار الأخطاء، بل يتمثل في “أولوية بناء دولة المواطنة، وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة، بعيدًا عن الطائفية والانقسامات الداخلية”. التجربة العراقية أظهرت أن الفشل في بناء نظام سياسي قائم على المساواة والمواطنة يؤدي إلى تعميق الانقسامات العرقية والطائفية، ما يعوق التنمية والاستقرار، ويُضعف قدرة الدولة على النهوض بمسؤولياتها.
على السوريين إدراك أن المرحلة القادمة تتطلب قيادة وطنية تتجاوز خلافات الماضي، وتحقق العدالة الاجتماعية، وتعزز الوحدة الوطنية لضمان بناء دولة مستقلة قوية ومستقرة، تخدم جميع مواطنيها. سوريا -كالعراق الجريح- تستحق مستقبلًا مشرقًا يليق بتضحيات شعبها وصموده، والكرة الآن في ملعب السوريين لصناعة هذا المستقبل بأيديهم.