ما إن كتبت الأسبوع الماضى عن اهتمامى بتناول الجوانب المختلفة من ملف الصناعة حتى ورد إلىَّ العديد من المساهمات والمقترحات القيمة- وكذلك الشكاوى- من المهتمين بهذا القطاع، سواء كانوا مستثمرين أم خبراء أم ممولين. والحقيقة أن الموضوع كبير وله جوانب متعددة، ومن استجابوا لدعوتى بفتح حوار حول ملف الصناعة كان لكلٍّ منهم مدخل وأولويات مختلفة.
لهذا فمن المفيد ربما أن أقتصر اليوم على استعراض العناوين والأسئلة الكبرى التى دارت حولها تعليقات ومساهمات المعلقين بحيث تمثل أجندة الحوار المأمول، وقد جمعتها فى عناوين:
أولًا، هناك البند الكبير المتعلق بالتراخيص الصناعية وما يرتبط بها من موافقات من مختلف الجهات. والسؤال المطروح هنا تحديدًا: هل ساهمت القوانين الصادرة مؤخرًا بشأن تيسير الحصول على الرخص الصناعية فى اختصار الوقت والإجراءات والتكاليف المرتبطة باستخراج الرخص أم لا؟، هناك طبعًا نظام الرخصة الذهبية الصادرة من هيئة الاستثمار والمعمول به مؤخرًا، فهل يكون بديلًا عن الرخص الصناعية إذا تم التوسع فيه؟
ثانيًا، هناك طفرة فى إنشاء وترفيق المناطق الصناعية التى يستغلها أو يديرها القطاع الخاص، فى شرق بورسعيد والقاهرة والجيرة والساحل الشمالى وغير ذلك من المواقع. ولكن ماذا عن المناطق الصناعية القديمة التى طرحتها الحكومة، خاصة فى الصعيد، بالمجان؟ هل جارٍ استغلالها بالفعل؟ وهل من أماكن متاحة فيها؟ وماذا عن المناطق الصناعية الجديدة، هل فيها مقومات المنافسة مع المناطق المماثلة فى المنطقة العربية والمتوسطية، أم نحتاج لتصور جديد يزيد من تنافسيتها؟
ثالثًا، أما فيما يتعلق بالضرائب والرسوم والتكاليف، فالرسالة الصادرة من المستثمرين واضحة. إننا نقول إن معدل الضريبة منخفض بالمقارنة بالعالم باعتبار أن ضريبة الدخل لا تتعدى 22.5% (وهو رقم معقول جدًا بالمقارنة بأوروبا مثلًا)، بينما الواقع أنه يُضاف إلى ذلك الضرائب العقارية، والقيمة المضافة، وتوزيع الأرباح، والتأمين الصحى، ثم- وهو الأخطر- العديد من الرسوم والتحصيلات التى لا يوجد بها حصر رسمى ولا حدود لما تفرضه الجهات المختلفة، بحيث تصبح التكلفة النهائية على المصنع أكبر بكثير من ضريبة الدخل. صديق أثق فيه وصاحب مصنع فى مجال المواد الغذائية، حسب معى تكلفته الفعلية من ضرائب متنوعة ورسوم متعددة ومصاريف متناثرة تجاوزت فى النهاية 50٪ من ربحه السنوى، وهذا يتعارض تمامًا مع رغبتنا فى زيادة تنافسية التصنيع المحلى.
رابعًا، الشكوى من إجراءات وتكاليف الاستيراد والتصدير لاتزال مستمرة. والقضية هنا ليست فى الأسعار الجمركية، ولا حتى فى الإجراءات النهائية، وإنما فى منظومة القواعد والمعايير التى يلزم على المصدر أن يسلمها كى ينهى معاملاته. والسبب أنه فى مختلف مجالات التصنيع والتصدير تتداخل القواعد الصادرة من مصلحة الجمارك مع تلك الصادرة من جهات الإشراف سواء صناعية أم تخزين أم زراعية، فيجد المستثمر نفسه تائهًا بينها، وفى انتظار انعقاد لجان عادية ثم لجان عليا كى يتم البت فى التناقضات المختلفة.
خامسًا، ثم هناك موضوع التدريب والتعليم الفنى، ويتعلق بعدم كفاية عدد الحاصلين على التعليم الفنى الحديث لمتطلبات سوق العمل المحلية، خاصة أن المؤهلين من قوة العمل المصرية صارت أمامهم مراكز جذب فى الدول العربية شديدة الإغراء، خاصة بعد تحرير سعر الصرف. فمن المسؤول عن ملء هذه الفجوة المتزايدة؟ الحكومة أم القطاع الخاص؟ ومن أين تأتى موارد تدريب الأعداد المطلوبة؟ وما هى الحوافز الممكن منحها للقطاع الخاص كى يتمكن من الحفاظ على العمالة الماهرة ومنحها شروطًا وحوافز تنافسية؟
سادسًا وأخيرًا، فإن هناك حاجة ماسة لتقييم وإعادة ضبط دور الحكومة فى النشاط الصناعى. الحكومة عليها واجبات كثيرة لن يقوم غيرها بها: إنشاء البنية الصناعية التحتية، وضع خطة للتصنيع، سن القوانين واللوائح، الرقابة على النشاط الصناعى، تشجيع التصدير الصناعى، وبالتأكيد المساهمة فى العملية التصنيعية ذاتها، خاصة فى المجالات التى لا يقدر القطاع الخاص على ارتيادها. فلم لا تركز الحكومة على هذه المهام القومية والاستراتيجية وتترك النشاط الصناعى العادى للمستثمرين: الطاقة والمدخلات الرئيسية الأخرى؟
هذه محصلة الحصاد الأول من التعليقات والمساهمات التى وردت إلىَّ من المهتمين بالصناعة، فهل تركت موضوعًا كبيرًا يستحق الاهتمام خارج هذه العناوين الستة؟ والأهم من ذلك، هل لدى الحكومة ما توضحه أو تضيفه لهذه الأسئلة؟.