في وضعٍ سوريٍّ مفتتٍ، ومنهكٍ، وشديدِ التعقيد، كان لا بد من إعطاء صفةٍ شرعيةٍ لسلطات الأمر الواقع؛ اختار الحكام الجدد تنصيب أحمد الشرع رئيساً لسورية في مرحلة مؤقتة غير مؤطَّرة زمنياً، وعبر الاكتفاء بمبايعة قادة الفصائل العاملة في الشمال، في إدلب، وتلك التابعة للأجندة التركية في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، إضافة إلى “جيش سوريا الحرّة” العامل في التَّنف ضمن الأجندة الأميركية. وقرّرت كل تلك الفصائل التي حضرت “مؤتمر النصر”، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام، حل نفسها والاندماج ضمن الجيش السوري الجديد الذي تشرف عليه وزارة الدفاع؛ غابت عن المؤتمر فصائلُ الجنوب، في درعا والسويداء، رغم تصريحات سابقة بقبول اندماجها بالجيش السوري، وغابت أيضاً قوات سوريا الديمقراطية بعد رفضها حلَّ نفسها مشترطةً الدخولَ في الجيش الجديد ككتلة، ومحاصصةً في وزارات الحكومة وفي ثروات المنطقة الشرقية. فقد جرى تنصيب الشرع رئيساً بدون توافق كلِّ الفصائل العسكرية، وبلا مشورة للنخبة السياسية، وبالتأكيد بدون مشورة الشعب، إذ يستحيل إجراء انتخابات في سورية من دون تحقيق حدٍّ أدنى من الاستقرار.
لم تستحوذ سلطات الأمر الواقع على الحكم بانقلاب عسكري، ولا يمكن القول إنها حرّرت مدناً سورية، فقد تبين أن جيش الأسد منهارٌ ولا يريد القتال، والنظام كله كان منهاراً، ومنذ 2015، لولا التدخل الإيراني والروسي، ونَهَشَهُ الفساد طوال السنوات التالية، لا سيما بعد 2019، واحتاج “دفشةً” نفَّذتها إدارة العمليات العسكرية. وبالتالي، ملأت السلطة الحالية الفراغ العسكري والأمني منذ السقوط، ثم السياسي بعد إعلان الشرع رئيساً. تم تعطيل الدستور والبرلمان وحلّ الجيش والأجهزة الأمنية وحزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وهي قرارات صحيحة لا يعارضها أحد، لكن بيان مؤتمر النصر وخطاب الرئيس السوري الجديد الأول الموجّه إلى الشعب السوري لم يتضمَّنا إعلانا دستورياً محدَّد المدة، واكتفى الشرع بعناوين عريضة للمرحلة الانتقالية، وأنه سيكون رئيس البلاد فيها.
حلَّ مجموعة من الفصائل ودمجها في جيش واحد هو الإنجاز الأبرز، وإنْ ما زالت ملامحُ هذا الجيش مشكوكاً بها؛ فمن حيث الاحترافية والموثوقية، لم توكَل مهمَّةُ تشكيل الجيش إلى ضبّاطٍ منشقين، وهم كثر، وهناك فصائل مشاركة تحمل سمعة سيئة ولم تكن سوى مرتزقة تقاتل قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ومن حيث الوطنية، توجد في الجيش عناصرُ أجنبية وبرتب عليا، ولم تحدّد مهمَّتها بوضوح بحماية حدود الوطن، خاصة في ظلِّ الاجتياح الإسرائيلي المستمرّ في القنيطرة والشريط الحدودي، وهو الأمر الذي لم يتطرّق له الشرع في خطابه، واكتفى بكلام عام عن توحيد الأراضي السورية.
الانتقال من عقلية الفصائل القائمة على محسوبياتٍ عائلية ومناطقية وغنائم وتشكيلات غير سورية إلى عقلية الجيش الوطني الذي يحمي الحدود ويحرّر الأراضي المغتصبة مرتبطٌ ببناء الدولة نفسها، وتشكُّل هويَّتها الوطنية، اللاطائفية، وهنا مشكلة أخرى ترتبط بهذا الجيش أن طيفاً دينياً واحداً يغلب عليه. وزاد إلغاء الخدمة الإلزامية من الشكوك بشأن رغبة الحكام الجدد إبقاء الجيش موالياً لهم. حلُّ هذه الفصائل ودمجها في جسم واحد، في هذه المرحلة، هو الخطوة الممكنة في ظل حالة فوضى السلاح، وستشكِّل أرضيةً للتفاوض مع بقية الفصائل غير المنضوية.
إقرأ أيضا : تحديات تتطلبها المرحلة الانتقالية في سوريا.. هل ينجح الشرع بالاختبار؟
يرى بعضُهم أنَّ تنصيبَ الشرع رئيساً عبر العسكر، وليس باستفتاء شعبي، مرفوضٌ، وهم محقُّون من حيث المبدأ، خاصة بوجود مخاوف من عودة الديكتاتورية وحكم العسكر. ولكن أيضاً علينا أن نعترف بمقدار التصحُّر السياسي الذي تعاني منه النخب السورية، وبالفجوة الكبيرة بينهم وبين الشعب وحاجاته، فالأحزاب القديمة باتت مهترئة، وتحتاج إلى حلِّ نفسها أو إعادة صياغة برامجها وفق الواقع الجديد، والتيارات التي نشطت في الخارج عانت من التبعية لأجندات متعدِّدة، ومن الكثير من الفساد وفقدان الثقة الشعبية بها، وتحكّم شخصيات بعينها في قياداتها. رغم ذلك هناك محاولات جديدة لتجريب البدء بحوارات وطنية على مستوى المدن والبلدات، مع ضرورة توسيع مشاركة القاعدة الشعبية، وصولاً إلى تشكيلات سياسية جديدة تحمل برامج واضحة. من الواضح أن الحاكمين الجدد لسورية يجرِّبون أيضاً، فقد أشيع سابقاً عن مؤتمر وطني كان سيجري على عجل، وبدا أنه صعبٌ، وسيثير امتعاضاً كثيراً في الداخل، وسينعكس ذلك على الرأي العام في الخارج، وبالتالي كان الممكن ما كان.
يقول الشرع إن المرحلة الانتقالية جزءٌ من عملية سياسية تتطلب مشاركة كل السوريين والسوريات. فوَّضه بيانُ الفصائل الأخير بسلطاتٍ مطلقةٍ تخوِّلُه تشكيلَ مجلس تشريعي مصغّر بديلاً عن البرلمان، ولجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني، وإعلانٍ دستوري مرجعاً قانونياً للمرحلة الانتقالية. وكل ما قاله الرجل في خطابه المكثَّف جيد، عن اهتمامه بالسلم الأهلي ومحاسبة المجرمين والعدالة الانتقالية وبناء مؤسّسات الدولة واقتصاد قوي واستعادة الخدمات الأساسية؛ لكنه لم يقل ما يطمئن السوريين إنه لا يرغب بالاستئثار بالحكم، كسابقه، وإلى الأبد. القرارات التعسُّفية وغير المدروسة، والتي يتخذها وزراء حكومة تسيير الأعمال، تحت مسمّى إعادة هيكلة الوزارات، ولا تستند إلى تشريعات الدولة، تتجاوز صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، والأخطر الإعلان عن نيَّتها خصخصة كل القطاعات وفتح الأسواق، من دون النظر في حاجات الأغلبية الساحقة المفقرة، فضلاً عن تعطيل القضاء، وفتح محاكمَ شرعية في المساجد للنظر في بعض القضايا، لا ينبئ ذلك كله إلا بنيات السيطرة على مفاصل الحكم والدولة. سيحتاج الشرع إلى صياغة برامج سياسية واضحة تعبّر عن رؤيته إلى الحكم، هذا يعني أن على منظّري هيئة تحرير الشام خوضَ معاركهم الخاصة لإجراء مراجعات واضحة لإيديولوجيتهم الإسلامية، تقوم على انفتاح كبير على المجتمع السوري، وتُرضي الغرب خصوصاً من حيث تخلّيها عن فكرة الجهاد ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتفتح على رفع العقوبات عن الجماعة المصنَّفة إرهابياً.
لا يريد الغرب ديمقراطية حقيقية في سورية، كما لا يريدها في كل العالم العربي، لأن الشعوب العربية الديمقراطية ستفرض على دولها رفض التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتضغط باتجاه مقاومته، وباتجاه بناء اقتصادٍ وطني قوي. فيما يبدو أن انتهاج نمطٍ اقتصادي نيوليبراليٍ متطرفٍ هو البرنامج الوحيد المعلَن عنه من حكومة دمشق، ويتناغم مع الأهواء الغربية، ويتفق مع عرض وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، الموانئَ السورية ومصانع الدولة، للخصخصة والاستثمار في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير في دافوس، أثناء تسويقه نظاماً جديداً ينكفئُ تحت مقولة “سورية أولاً”.