أعلن أحد المصارف المحلية التونسية عن تمويل مشاريع من بينها إعادة تهيئة أحد المسابح في قلب العاصمة تونس وكذلك دار الثقافة ابن خلدون ذات الإشعاع الكبير والدور التاريخي في خدمة الثقافة.
الخطوة جاءت ضمن مقاربة “الصلح الجزائي” بين الدولة ورجال الأعمال الذين سبق أن حصلوا على قروض من مؤسسات مصرفية حكومية قبل 2011. مقاربة تقوم على تمويل خدمات اجتماعية ومساعدة الدولة على تجاوز المشكلات المالية.
هل هذه المقاربة واقعية أم فرضتها الظروف ووجدت المصارف نفسها مجبرة عليها لعدم الصدام مع الرئيس قيس سعيد.
مشروع “الصلح الجبائي”، الذي يتلكأ البعض من المصارف في الاستجابة له، يخير رجال الأعمال المعنيين بين تنفيذ مشاريع اجتماعية أو إعادة الأموال إلى الدولة.
لكن المهم في الاتفاق مع البنك المذكور سلفا أنه يكسر الحاجز بين الطرفين، ويزيل مخاوف لدى رجال المال من أن الدولة تريد أن تستغل سلطتها لتطويعهم لخدمة مشاريعها أو إجبارهم على الاستثمار في قطاعات غير منتجة.
وهو إلى ذلك يحد من الغلواء في التقييم لدى الكثيرين الذين يعتقدون أن البنوك لا يمكن أن تفكر في العمل الاجتماعي، وأن ما يهمها هو الربح بأسهل الطرق والتكاليف.
تنفيذ مشاريع اجتماعية وثقافية ورياضية سيجعل المصارف تقف على فرص جديدة للاستثمار لم تكن تعرفها، أو لا تعتقد في جدواها، وفي نفس الوقت ستقربها من الناس وتمحو الصورة السيئة التي تحصر دورها في الفوائض ورهن البيوت والمشاريع والتهديد بالحجز والعقل.
وبهذا الخيار يمكن للمصارف ورجال المال عموما التأسيس لشراكة فعلية بين مكونات المشهد من دولة ومجتمع لا تكتفي فيها البنوك فقط بالربح الوفير واستغلال الأزمات لزيادة الفوائد والأرباح. شراكة تحسن من أوضاع الناس، وإن تحسن الوضع ستستفيد، ولا شك، وإن ساء ستنكمش أرباحها وتتراجع وهذا هو منطق السوق، فليس هناك رابح دائما.
وبالتوازي مع هذا الانفتاح الموسوم بالشراكة وتبادل المنافع يمكن أن نفهم خيار التقارب بين المصارف والدولة من خلال القرض الذي ستحصل عليه لخلاص ديون مستحقة.
ووافق البرلمان التونسي هذا الشهر على طلب من الحكومة للحصول على تمويل مباشر من البنك المركزي بقيمة سبعة مليارات دينار (2.25 مليار دولار) في خطوة تهدف إلى سداد الديون الخارجية العاجلة، منها 850 مليون يورو مستحقة خلال هذا الشهر.
وتبرز المصارف التونسية كبديل يمكن الاعتماد عليه في توفير قروض وتسهيلات للحكومة التونسية بدلا من ترك البلاد تحت رحمة صندوق النقد، خاصة في ظل ارتياب الدولة من شروطه وخوفها من تأثيرات الارتهان للصندوق وإصلاحاته على الاستقرار الاجتماعي في البلاد، وهي الإشارة التي يذكر بها الرئيس قيس سعيد باستمرار بالعودة إلى ثورة الخبز في يناير 1984.
ليست سابقة أن تلجأ دولة إلى مصارفها المحلية لحل أزمة ديون أو إنقاذ مشاريع معطلة أو تنفيذ خطط حيوية في مجالات لا تقبل التأجيل. والأمر يرتبط بقدرة الدولة على الإيفاء بتعهداتها في خلاص الديون وفق الشروط والضوابط المعهودة والتزام المصارف بدورها بالمرونة الكافية.
لكن الأهم في هذا أن تتعامل المصارف مع الدولة بشكل متكافئ، فليس من المقبول أن تستغل حاجتها وتفرض عليها فوائض إضافية بطرق التفافية، وفي نفس الوقت لا يجب أن تنفذ رغبات الدولة وطلباتها لاعتبارات سياسية، خوفا من السلطة أو طمعا في ما يحمله التقرب إليها من مغانم وتسهيلات.
يمكن للمصارف التونسية والقائمين عليها أن يصارحوا الرئيس سعيد والحكومة بمكامن قلقهم من حصول الدولة على قروض من السوق المالية الداخلية. هناك الكثير من الحديث عن مخاطر هذا الخيار من مثل أن الدولة ستستسهل الحصول على التمويلات، وأنها قد تنفقها لاعتبارات شعبوية، سياسيا أو اجتماعيا، من دون تقدير العواقب.
المفروض أن المصارف تحصل على ضمانات قوية من الدولة مثلما تفرضها على الشركات، الصغيرة أو المتوسطة، وعلى الأفراد بالشكل الذي يجعل من الصعب على أي جهة كانت أن تتهرب من خلاص ديونها. وفي نفس الوقت من واجبها أن تتدخل في مجالات إنفاق تلك القروض لضمان استعادتها من ناحية وإحداث حراك اقتصادي يعود عليها بالمنفعة.
من المهم أن يتحدث أصحاب الشأن المالي بعيدا عن تحذيرات الخبراء ومخاوفهم بشأن تأثير الاقتراض من البنوك المحلية على الترقيم السيادي أو زيادة التضخم، فتلك مصطلحات تقنية لا يفهمها الناس ويمكن أن ينظروا إليها على أنها بذخ فكري لدى نخبة لا يعجبها العجب في رجب.
على المصارف أن تبدي رأيها في ضرورة دعم الدولة للاستثمار كقاطرة رئيسية لإخراج الاقتصاد من أزمته. لا يجب أن تغطي المديونية على عيون الدولة فتنسى أن مهمة الإنقاذ تبدأ بتقديم التسهيلات والخطط والقوانين وضخ الاعتمادات الكافية لإنجاح الاستثمار.
من المهم أن تكون المصارف صاحبة رأي وموقف وتحليل كجهة وازنة في الاقتصاد، وأن تقول للرئيس سعيد رأيا واضحا بشأن مخاطر الاقتراض من البنوك المحلية على تونس واقتصادها، وهل صحيح أن الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد مضرة وتهدد الاستقرار الاجتماعي، وهل أن الهدف من وراء هذه الإصلاحات هو رفع الدعم عن المواد الأساسية، أم أن هذه تهم شعبوية لا مسوغ لها.
وإذا كانت القصة كلها من الإصلاحات هي التقشف الذي يحد من فرص الناس في الحصول على الخدمات الكافية، أو هو حيلة التفافية لتقليص الدعم عن المواد الأساسية مقدمة لرفعه كليا، فعلى المصارف أن تقول ذلك للرئيس سعيد، وأن تصارح به الناس وتدعم مسار التغيير الذي يعتمد على الذات، وأن يكون لها فيه رأي ودور وخطط لإنجاح المقاربة الاجتماعية لحل المشكلات المالية التي تعيشها البلاد.
ومن صور هذه المقاربة موضوع الشركات الأهلية التي تثير الكثير من الجدل، فالرئيس قيس سعيد يريد من المصارف أن تمولها، وأن تسهل حصولها على التمويل، لكن الأمور لا تبدو واضحة، لأن مشاريع الشراكة الأهلية جديدة، ولا مؤشرات على نجاح نماذج يمكن أن تشجع على دعم التجربة وتوسيعها. الآن لا يبدو الأمر أكثر من حماسة شخصية من الرئيس سعيد وأنصاره لتطبيق نموذج اشتراكي قديم للتخفيف من أزمة البطالة.
هل ستغامر المصارف بتمويل هذه المشاريع من دون تقارير ميدانية عن جدواها، وهل ستكسر البنوك ترددها المعهود في الحكم على المشاريع بدراسات الجدوى وتدعم المشروع العام ضمن سياق مجاراة رغبة مؤسسة رئاسة الجمهورية.
هذه المشاريع لا يجب أن يتم الحكم عليها بالمجاملة أو دعمها لاعتبارات سياسية. المقاربة الاجتماعية مهمة، لكنها ينبغي أن تكون شفافة في السلب والإيجاب.