تمر هذه الأيام مناسبة اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة الذي أطلقته الأمم المتحدة قبل 25 عاما منذ إعلان اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة والمكون من 16 يومًا من النشاطات الدولية والمحلية. تبنت الحملة لهذا العام هاشتاغ ـ لا عذر «للتنبيه إلى التصعيد المثير للقلق للعنف ضد المرأة ولإحياء الالتزامات والدعوة إلى المساءلة والعمل من قِبَل صناع القرار».
في هذا الوقت تقريبا من عام 2021، كنت قد كتبت رأيا حول هذه المناسبة خلصت فيه وأنا أراجع علاقة هذه المناسبة بما تمر به المرأة في عراق الغزو والاحتلال وإعادتها عقودا إلى الوراء، بكل المستويات، بأن مراجعة الفعاليات الرسمية والمنظمات الدولية والمحلية لهذه المناسبة يعكس حقيقة ازدواجية المعايير وتطبيق القوانين الدولية وفق مصالح دول معينة دون غيرها.
وها أنا أعود، بعد سنوات، إلى ذات المناسبة للاطلاع على ما تقدمه الأمم المتحدة من تعريف للعنف ضد المرأة ومن ثم اقتراحاتها للقضاء عليه. ما هو العنف إذن؟ يخبرنا موقع الأمم المتحدة « بشكل عام، يظهر العنف في أشكال جسدية ونفسية وجنسية وتشمل: عنف العشير، العنف والتحرش الجنسي، الاتجار بالبشر، تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وزواج الأطفال». وهو تعريف مهم لولا انتقائيته الصارخة في تغييب عنف الدول، وهو الأكثر شمولية ضد المرأة. وهو جوهر إشكالية قراءة القوانين والاتفاقيات من منظور محلي، خصوصا حين لا تجد الدول العظمى، المؤطرة للقوانين، حرجا إما في ممارسة «العنف» بنفسها، بشكل غزو واحتلال، كما في العراق، أو المساهمة بارتكابها، بالتعاون مع أنظمة استيطان عنصرية كما في فلسطين، أو النظر جانبا، مع توفير الدعم الاقتصادي والسياسي للأنظمة القمعية، حين يتم خرق وانتهاك حقوق الشعب، من ضمنه المرأة، والتعامل مع المرأة وكأنها كائن، منعزل تماما عن بقية الشعب.
وإذا كان دور ومسؤولية الدول في ممارسة العنف ضد المرأة يحتمل الضبابية في تقارير المنظمات الدولية في السنين الماضية، فإن ما يحدث في فلسطين اليوم لا يحتمل أي تمويه شعاراتي وخطابي مهما كانت لغته مغلّفة بـ«إنسانية» براقة. ما يحدث في غزة يتجاوز تعريف العنف الذي تتبناه المنظمات الدولية والنسوية، إذ جعل العالم كله شاهدا على الجريمة الأبشع ضد الإنسان. جريمة الإبادة تتداعى أمامها القوانين والمفاهيم والمصطلحات ما لم يصاحبها فعل حقيقي.
هل من عذر مُقنع للأمم المتحدة في ألا يكون موقفها صريحا واضحا من الذي تتعرض له المرأة الفلسطينية في إعلانها لمناسبة أيام «مناهضة العنف ضد المرأة» وتعريفها للعنف؟ وإذا كانت المناسبة معنية بحقوق المرأة، كيف يمكننا إقناع المرأة ببلداننا بجدوى حقوق الإنسان والقوانين الدولية وهي تعيش تفاصيل واقع يزداد سوءا، يوما بعد يوم، يضفي على وضع المرأة خصوصية تجعلها وكأنها تعيش، أو تموت، في عالم آخر ناء، مختلف عما تعيشه المرأة في دول أخرى، خاصة تلك الدول المتحكمة باتخاذ القرارات الفعلية في الأمم المتحدة ومنظمات المرأة الدولية، والتي تتماشى مع مصالحها السياسية والاقتصادية بغض النظر عن جنس وعمر الضحايا ذكورا كانوا أو إناثا في بلداننا.
اقرأ أيضا| غزة.. حياة على حافة الانهيار
تؤكد التفاصيل المُعاشة أن الواقع الذي تعيشه المرأة في بلداننا، غير «ذلك العالم» الذي تعيشه نساء الدول المؤطرة للقوانين الدولية والمتحكمة بانتقائية تنفيذها.
فكيف يفهم «ذلك العالم» حقوق المرأة في «عالمنا» ومظلة أيام ومناسبات القوانين الدولية مثقوبة بمئات الأماكن جراء القصف اليومي الذي يمحو وجود المرأة أساسا؟ كيف يمكن تفسير الاحتفال بالمناسبات «الإنسانية» والعمل جار على إبادة الإنسان؟ كيف يمكن فهم ماهية مناهضة العنف ضد المرأة و«ذلك العالم» يشاهد تفاصيل إبادة المرأة الفلسطينية، وقتل أبنائها وأحبائها وتقطيع أوصال الحياة؟ ما معنى «مناهضة العنف ضد المرأة» والمرأة، في غزة، تصغي مذهولة لقول المسؤول عن الدفن: «بحطلك أولادك الاثنين مع بعض في قبر واحد» أو حين تقول بعينين أُفرغتا من الحياة « وُسعت علينا الخيمة بعد ما استشهدوا الأولاد»؟
كيف يفهم «ذلك العالم» الذي يقدم المرأة العربية، في كل تقاريره المؤسساتية وأجهزة إعلامه كضحية لرجل (إرهابي) بملامح قاسية ولحية كثة وكوفية، وهو يرى الفلسطيني، ذا اللحية الكثة والكوفية، محتضنا حفيدته الطفلة بعد استشهادها، مناديا إياها بقلب مفطور وجعا «يا روح الروح»؟ ألا يدرك «ذلك العالم» أن عالمنا هو رجل وامرأة وطفل، معا، وأن روح الروح هي الكل وهي فلسطين المقاومة لآلة التصفية الصهيونية؟ ألا يشاهدون كيف أن «الكل» يتعرض للإبادة، في كل دقيقة، في عالمنا، وأن أنين الجوع لم يعد يستثني أحدا، وأن اللقمة اليومية مغموسة بالموت؟
كيف نتعامل مع «ذلك العالم» ونحن نصحو يوميا، على مرأى طفلة تحدق في الوجوه مرتلة: «اسمي سما… اسمي سما… قتلتني إسرائيل… قتلتني»…؟ ليردد من ورائها الضحايا من الأطفال تراتيل الاستشهاد بأسمائهم؟ ما الذي يجب أن يكون عليه عدد الضحايا في غزة ليعرف ذلك العالم معنى «مناهضة العنف»؟ هل تكفي حياة 44 ألفا و580 شهيدا و106 آلاف مصاب، لتحويل المناسبة السنوية الاحتفالية إلى فعل دولي فوري لوقف الإبادة الجماعية وجرائم التطهير العرقي بحق شعب سقت دماؤه أرضه؟
إزاء هذه الجرائم اللاإنسانية، الهادفة إلى محو الفلسطيني المسّور بجدار الموت والصمت الدولي وتواطؤ الحكومات العربية، أما زال بإمكاننا الإيمان بأن العالم واحد وأن الطفل واحد وأن حقوق المرأة واحدة وأن تعريف العنف واحد؟