تونس

معركة في العلن بين قيس سعيد والدولة العميقة

قيس سعيد يقول للناس الذين ساندوه في انتخابات أكتوبر 2019 وساندوا إجراءاته في 25 يوليو 2021 إنه يحتاج إلى الوقت ليحدث التغيير الذي وعدهم به، وهو يقول لهم بشكل غير مباشر “أعطوني وقتا أكثر لأن السنوات الماضية لما بعد التغيير لم تكن كافية” لتنفيذ الوعود.

قائمة المرشحين الفعليين لمنافسة قيس سعيد على الانتخابات الرئاسية محدودة. قد لا يجاوز العدد خمسة منافسين لعل أبرزهم منذر الزنايدي وكمال العكروت بانتظار أن يتضح اسم من ستدعمه حركة النهضة الإسلامية من محيطها السياسي أو ممن يوصفون بمرشحي ثورة 2011.

من المفيد الإشارة إلى أن الشروط الجديدة التي وضعتها هيئة الانتخابات ستقود إلى تقليص قائمة المرشحين من مئة مرشح إلى عشرة مرشحين أو أقل، فليس من السهل على مرشحين غير معروفين وممثلين لقطاعات مختلفة مثل الثقافة أو الرياضة أو القضاء أن يحققوا أهم شرط وهو الحصول على تزكية عشرة آلاف ناخب موزعين على عشر دوائر انتخابية على الأقل، ويجب ألا يقل عددهم عن 500 ناخب من كل دائرة منها، أو الحصول على تزكية نواب في البرلمان أو أعضاء في المجالس المحلية، وهذا أمر صعب لأن المعارضة لا تمثيل لها داخل البرلمان والمجالس المحلية بسبب مقاطعتها للانتخابات السابقة.

ومن يحصل على التزكيات الكافية سيكون عليه الحصول على بطاقة خلو سجله المدني من موانع قضائية، في وقت يجري الحديث عن تشدد في منح هذه الوثيقة التي قد تؤدي إلى إسقاط الكثير من المرشحين.

وبقطع النظر عما إذا كان الهدف من الشروط التي وضعتها هيئة الانتخابات هو التضييق على المعارضة أم لا، فإن نتائجها ستكون مقبولة بل ومطلوبة شعبيا في ظل دعوات إلى وقف لعبة استسهال الترشح لرئاسة الجمهورية التي سمحت بترشح أسماء لا وزن لها، وبعضها مجهول، ولا يحتكم على أي أفكار أو برامج، في حين أن رئاسة الجمهورية تتطلب حدا أدنى من التجارب السياسية والمستوى العلمي والفكري.

الاستنتاج الواضح أن قيس سعيد سيجد نفسه في مواجهة مرشح من الدولة العميقة ربما يكون مدعوما من حركة النهضة التي لا تزال تعتقد أن نجاتها تكمن في دعم وجوه قديمة، أو مدعوما من رجال المال والأعمال الذين لم يقبلوا فكرة المحاسبة والصلح الجزائي الذي يطرحه قيس سعيد.

إقرأ أيضا : لماذا هدد أردوغان “إسرائيل”؟

الرئيس سعيد هزم منظومة 2011 سياسيا، ومن الصعب أن تجد من يقدر على منافسته من داخلها لاعتبارات منها أن هذه المنظومة مشتتة. وحتى داخل الدائرة السياسية الواحدة (من الإسلاميين أو من الوسط أو من اليسار)لن تجد اتفاقا على مرشح واحد. تضاف إلى ذلك صورة الفشل التي ترافق هذه المنظومة وجعلت الناس ينقمون عليها وعلى رموزها وأحزابها.

هناك مرشحون في جلباب الرئيس سعيد من بقايا منظومة 2011 مثل زهير المغزاوي، هم مع قيس سعيد في السر والعلن وخاصة في موقفه المناوئ للنهضة وسجن قادتها، ويرون أن ذلك يخلصهم من خصم لم يجدوا حلا لإعادته إلى القمقم كما فعل معه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

لكن ترشح مثل هؤلاء يحقق مكاسب إضافية أهمها أنه يسكت التململ الداخلي في ظل انتقادات لحركة الشعب، على سبيل المثال بأنها تخلت عن هويتها لاسترضاء قيس سعيد، وأنصارها الذين تعودوا المزايدة على الكل لا يريدون من يزايد عليهم ويتهمهم بالولاء للسلطة والتخفي تحت جلبابها.

ترشح “الأنصار” لا يزعج قيس سعيد، وربما يعطي إشارة إيجابية بأن الرجل ليس ضد المخالفين إذا قبلوا بالتحرك ضمن مربع دستور 2022 ولم يمجدوا المرحلة الماضية، ويمكن أن يسمح لهم بهامش من الجرأة في النقد. لكنهم بالنهاية ليسوا مؤثرين بأي شكل لا في خدمته ولا في معارضته.

ما يزعج الرئيس سعيد ليس الساسة ولا الأحزاب المعروفة التي نشطت في الساحة، ولكن الماكينة القديمة التي لا تزال تسيطر على الدولة وتتحرك وفق أجندتها ومصالحها، وليس وفق توجه الدولة وخطط الرئيس. ولذلك أخرج الصراع معها إلى العلن في خطاباته. لم يرض باعتماد يعتمد أسلوب المناكفة الصامتة أو حل الخلاف من وراء الستار من باب الضعف، كما كانت تفعل النهضة، ولكن فضل حل الخلاف في النور على مسمع ومرأى من الناس.

كان جليا في الأيام الأخيرة أن قيس سعيد لم يكن يتحدث عن منظومة 2011، ولكن عن جهات داخل الدولة وما هي من الدولة، لوبيات تربك توزيع المياه والكهرباء ومواد التموين والعلف، وهدفها التأثير على الناس.

وقال قيس سعيد في خطاب 25 يوليو إن “من أسباب التأني تفكيك الشبكات التي تنظمت داخل عدد من مؤسسات الدولة وعطلت السير الطبيعي لدواليبها، من مظاهرها القطع المتعمد للماء والكهرباء ورفض تقديم أبسط الخدمات لمنظوري الإدارة، إلى جانب تعطيل ممنهج لعدد من المشاريع بالرغم من أن الأموال المرصودة لها متوفرة”.

وأضاف أن “عددا من المسؤولين، وإلى جانب هذا الوضع الصعب والدقيق، لم يؤدّوا واجبهم في خدمة الوطن وحمل الأمانة حتى بالحد الأدنى المطلوب”، مشيرا إلى أنه تدخل في الكثير من الأحيان لدى المسؤولين الجهويين من أجل رفع فضلات أو فتح مكتب بريد على سبيل الذكر.

ما يقوله كلام الرئيس، وهو كلام مباشر وواضح، أنه وجد صعوبات كثيرة في تنفيذ ما وعد به الناس خاصة ما تعلق بضبط وتحسين مسالك توزيع المواد التموينية والخضار والتحكم في الأسعار، وتحسين أداء الخدمات التي تقدمها الدولة. إنه خطاب لتبرئة الذات، وخاصة مصارحة الناس بوجود قوى تعطيل وعرقلة وشد إلى الوراء، وهي قوى ليست سهلة، ولم يكف معها وضع البعض من السياسيين في السجن، وأنها تحتاج إلى نفس طويل.

وهنا مربط الفرس. قيس سعيد يقول للناس الذين ساندوه في انتخابات أكتوبر 2019 وساندوا إجراءاته في 25 يوليو 2021 إنه يحتاج إلى الوقت ليحدث التغيير الذي وعدهم به، وهو يقول لهم بشكل غير مباشر “أعطوني وقتا أكثر لأن السنوات الماضية لما بعد التغيير لم تكن كافية” لتنفيذ الوعود.

هل سيقدر الناس على هزيمة الدولة العميقة إذا شاركوا بقوة لدعم قيس سعيد. هذا أمر وارد. لكن ما يهابه الرئيس سعيد أن دوائر تعمل مع الدولة تجهّز الأرضية لإنجاح أسماء بعينها بالتشجيع على جمع التزكيات لها، وتحريك الروابط الحزبية والعروشية (العشائرية) لفائدتها.

وتعزو أوساط سياسية متابعة سبب إقالة عدد من المعتمدين والعمد (شخصيات جهوية) إلى اكتشاف شبكات تعمل على خدمة مرشحين محتملين للدولة القديمة يتم العمل على تصعيدهم لتكون قادرة على استخدامهم لتأمين مصالحها التي باتت مهددة بفضل خيارات قيس سعيد وتركيزه على تفكيك لوبيات النفوذ المختلفة وتشابكاتها السياسية ما قبل وبعد 2011، وخلفياتها الاجتماعية.

وبعد أن جربت مختلف وجوه ثوار ما بعد 2011، ولم تتحقق النتائج التي كانت تأمل فيها، تتجه قناعة اللوبيات لترشيح شخصيات عملت صلب الدولة العميقة في السابق. وفي ظل محدودية الخيارات يبدو المنذر الزنايدي الأقرب إلى كسب ود الدولة العميقة.

وشغل الزنايدي الكثير من الحقائب الخدمية ولديه معرفة بتفاصيل ملفاتها ما يسهّل عليه أن يقدم برنامجا واقعيا قد يجلب الناس خاصة جمهور المنظومة السابقة التي تشعر بأنه تم تهميشها وتخوينها بسبب أخطاء في دائرة محدودة من محيط الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وبعض رجال الأعمال المستفيدين منه.

وحمل بيانه الأخير تصعيدا واضحا ضد قيس سعيد ليبدو وكأنه لا يرى فيه سوى الخصم الذي عليه هزيمته، وهو من يقف في وجه عودته من باريس أولا وإلى الواجهة ثانيا.

وتعهد الزنايدي “بمحاسبة ومقاضاة كل من يثبت تورطه في تزييف إرادة الشعب وتعريض أمنه وسلامته للخطر”. وقدم نفسه منقذا، وهو “الأجدر بقيادة البلاد في المرحلة القادمة، والأقدر على تحمل الأمانة وإنقاذ البلاد وإصلاحها”.

هل حصل الزنايدي على وعود بالدعم من جهة داخل الدولة العميقة، مالية أو سياسية، أم أنه يعرض نفسه منافسا من دون سند سوى الحنين إلى الماضي؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى