على عادتها في أيام الانتخابات، لم تنم إنكلترا ليل الخميس. وستعيش حالة استنفار قلق ليومين آخرين أو ثلاثة ريثما ينتهي الإعلان عن النتائج التي تنذر بإحداث تغيرات جذرية في خريطة السياسة البريطانية. كان حزب المحافظين مضطرباً منذ أسابيع مع رواج تصورات متشائمة عن حجم الهزائم التي سيتكبدها. ولم يكن حزب العمال أهنأ بالاً. تبارت التوقعات في تقدير الثمن الذي سيدفعه بسبب غزة وغيرها، مع أنه دخل الانتخابات وهو متقدم بنحو 20 نقطة على الحزب الحاكم في استطلاعات الرأي.
ضجت وسائل الإعلام بالجدال فيما كانت وسائط التواصل الاجتماعي ميادين حروب مفتوحة حول 2660 مقعداً في المجالس البلدية، ومناصب 13 عمدة وانتخابات فرعية في بلاكبول ساوث. وهذه واحدة من دوائر “الجدار الأحمر”، التي كانت تعطي أصواتها للعمال قبل أن يغويها بوريس جونسون في2019 بالتصويت للمحافظين.
إلا أنها عادت إلى أحضان العمال في وقت مبكر بعد فوز مرشحهم بفارق كبير، ما عزز أحلام ستارمر بفجر جديد. وهذا هو السابع بين المقاعد البرلمانية التي خسرها المحافظون في ظل ريشي سوناك، وذهب خمسة منها للعمال.
وكانت معركة المحافظين على جبهة المجالس البلدية مؤلمة. ففي وقت كتابة هذه الكلمات، كانت نتائج انتخابات 71 من أصل 107 مجالس بلدية تفيد بخسارة المحافظين 264مقعداً وفوز العمال بـ679 مقعداً آخر. وهذا نذير شؤم. وإذا قادت عملية التآكل في حصة المحافظين من الأصوات إلى فقدان 500 مقعد، سيكون ذلك كارثة بالنسبة له. وقد يخلص ناشطوه، وخصوصاً المتشددين منهم، إلى أن الوقت قد حان لاستبدال زعيم، أو زعيمة، بسوناك الذي “لم يجلب لنا سوى الهزائم”، على حد تعبير نائب محافظ سابق في البرلمان.
لكن هؤلاء يُسقطون من حسابهم الظروف السائدة في الانتخابات العامة الماضية التي شهدت صعود المحافظين الصاروخي في مناطق “الجدار الأحمر”. اعتقد ناخبو العمال السابقون هناك أن مصيبتهم الكبرى تتمثل في المهاجرين الذين يتدفقون عليهم من أوروبا وخارجها، ما جعلهم يصوتون لمصلحة “بطل البريكست” جونسون. وصدقوا مزاعمه حول انتصاراته الخلبية وإنهاء عملية الطلاق مع الاتحاد الأوروبي. كما سرهم فك الحصار الذي فرضه عليهم كوفيد وبدء توزيع اللقاحات، فأعطوه أصواتهم في انتخابات 2021 المحلية. كان المحافظون حينذاك يتقدمون على العمال بنحو 8 نقاط في استطلاعات الرأي. أما الآن فهم متخلفون عنهم بعشرين نقطة.
من ناحية ثانية، التردد الذي غلب على أسلوب سوناك وتأرجحه بين إغضاب المتشددين في الحزب مرة واسترضائهم مرات، جعل شوكتهم تزداد قوة وصاروا يستهدفونه بشكل مباشر. ويجلده حالياً التيار الشعبوي المتطرف بسوط حزب “ريفورم يوكي” (إصلاح المملكة المتحدة) الذي يلعب دوراً شبيها بذاك الذي أداه حزب البريكست بإشراف مؤسسه نايجل فراج. فقد هدد يومها حزب المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون في2014، ما أجبره على الجنوح يميناً ظناً منه أنه يسحب بذلك البساط من تحت أقدام الشعوبيين. ويقوم “إصلاح المملكة المتحدة” اليوم بدور أهم من حزب “البريكست” سابقاً لأن العديد من ناخبي حزب المحافظين ومن نوابه وممثليه في المجالس البلدية باتوا يبحثون عن مأوى للجوء إليه حين يفرون من سفينة الحزب الحاكم الغارقة.
ورحب هذا الحزب الأقلوي بأندرسون، الذي صار نائبه الأول في مجلس العموم بعدما تلقى “عقوبة ناعمة” قدر الإمكان بسبب كراهيته للمسلمين التي لايزال يعبر عنها في كل فرصة سانحة. ويذكر زعيمه ريتشارد تايس أنه في تواصل مع العديد من برلمانيين محافظين ممن لا يستبعدون الانضمام إليه بيد أن دوره حتى الآن يبدو مقتصراً على خطف أصوات من المحافظين. ومع أنه لم يستطع إجبار المحافظين على التراجع إلى المركز الثالث في انتخابات بلاكبول ساوث كما وعد، فقد حقق فيها أعلى نسبة له في انتخابات فرعية منذ دخوله خط المنافسات الانتخابية في 2022.
وفي أيامه الأولى كان يحظى بتأييد شبكة واسعة بينهم النائب جورج غالاواي، على الرغم من البون الشاسع بين الحزب اليمني المتشدد والمؤيد لإسرائيل من جهة، وهذا السياسي المناهض لها الذي يدعي اليسارية.
في هذه الأثناء، دفع حزب “إصلاح المملكة المتحدة” المحافظين إلى المرتبة الثالثة في انتخابات مقاعد بلدية في شمال إنكلترا. لكنه لم يسجل إنجازات مهمة على الأرض، علماً أنه لم يطرح سوى 326 مرشحاً. وخلافاً لمنافس المحافظين هذا، فإن حزب الخضر الذي سابق العمال في بعض الدوائر، فاز بـ نحو 65 مقعداً، حتى مساء الجمعة الماضي.
استعمل حزب المحافظين ماكينة الحكومة لترجيح كفته هنا وهناك والنجاة من حبل المشنقة الذي يضيق حول عنقه. وأثار ذلك انتقادات واسعة، من دون أن ينقذه من هزائم ساحقة. مثلاً استغل مشروع ترحيل اللاجئين غير الشرعيين إلى رواندا ربما لاستعادة ناخبين سيخطفهم حزب “إصلاح المملكة المتحدة”. وصورت وزارة الداخلية عملية ترحيل لاجئ إلى رواندا في شريط اعتبرته المعارضة “دعاية صريحة”. ويعتقد أن الحكومة اختلقت مشكلة مع جمهورية إيرلندا بشأن الهجرة حينما رفضت قبول عودة المهاجرين الذين وصلوا إلى دبلن عبر إيرلندا الشمالية، وذلك لشد عصب ناخبي المحافظين المتشددين.
وكان لحزب العمال نصيبه من الخيبات التي تُعزى إلى الحرب على غزة. وهو تعرض لصفعات في مجالس بلدية دوائر يشكل المسلمون نسبة كبيرة من سكانها، في شمال إنكلترا. كما فشل في انتزاع منصبي عمدة محافظة “ويست ميدلاند” وعاصمتها برمنغهام في وسط إنكلترا و”تيز فالي” في شمالها، وذلك للسبب ذاته. بيد أنه لم يخرج خالي الوفاض من النجاحات التي يعود بعضها إلى ضعف المحافظين أكثر منه إلى مهارات العمال. وعدا عن المقاعد البلدية التي ربحها والبلديات التي صار يسيطر عليها، استطاع مرشحه التغلب على جيمي دريسكول عمدة “نورث إيست” الذي تنبأت استطلاعات رأي باحتفاظه بمنصبه. فالعمدة العمالي السابق الذي خاض الانتخابات كمستقل بعد خلاف مع ستارمر دفعه إلى الاستقالة، يتمتع بشعبية كبيرة في المنطقة.
وفيما يترنح المحافظون من هول الهزيمة، ويمنون النفس ببقاء حفنة من المراكز والمقاعد بين أيديهم، لم يحرز حزب العمال نجاحاً يدعي معه أنه بات مؤهلاً لتسلم السلطة. فمكاسبه ليست قابلة للمقارنة بتلك التي سجلها حزب العمال الجديد بقيادة توني بلير في 1996 ومضى ليكتسح مجلس العموم في العام التالي.
وفيما يقترب المحافظون من نهاية الشوط، لا يبدو العمال قادراً على الإمساك بالدفة وحده، ويغدو مستقبل البلاد أقل وضوحاً!
عمّار الجندي