معالم تخطيط في سياسة مصر الخارجية
ظهرت النتائج السلبية لمن يتولون أمر السياسة الخارجية في أزمة سد النهضة الإثيوبي، حيث نفذت أديس أبابا رؤيتها ولم تهتم بمطالب القاهرة، التي خسرت في نظر كثيرين جولاتها التفاوضية، ولم تتمكن من استخدام بدائل أخرى.
انقسم المصريون حول أداء السياسة الخارجية للدولة خلال الفترة الماضية، منهم من رأى أنها سارت عشوائيا نتيجة التقلبات التي تشهدها المنطقة منذ سنوات، وبدت فيها التوجهات المصرية حذرة ومرتبكة أحيانا، ومنهم من رأى أنه جرى التخطيط لها بطريقة محكمة وإستراتيجية، بما يمكنها من التعامل مع المعطيات الإقليمية والدولية المتغيرة، والتي تحتاج قدرا مرتفعا من التريث وعدم المجازفة.
في الحالتين تركت أجهزة الدولة، بما فيها وزارة الخارجية نفسها، كل شخص يستشف الشكل الذي يصل إليه خياله، ولم تتدخل كثيرا بالشرح والتوضيح وتقديم المعلومات التي تؤكد أنها تملك رؤية محددة، فكان خيار العشوائية مقدما لدى شريحة كبيرة من المواطنين على وجود خطة بعيدة المدى.
لمس الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هذه الإشكالية بشكل غير مباشر عند افتتاحه محطة كبيرة للقطارات قبل أيام، وأشار بما يفيد وجود تصرفات وتحركات تقوم بها الدولة على مستويات عدة ولا تعلن عنها، وسيأتي الوقت الذي تتكشف فيه الحقائق.
لا أحد يعلم بالضبط ما قصده الرئيس السيسي، لكن خطابه جاء في خضم حديثه عن تحديات داخلية وخارجية تواجهها الدولة، والتي إن لم تستطع تحقيق مكاسب أو تظهر تفاعلا كبيرا مع قضايا إقليمية تعزز الدور المصري، فهي لم تخسر كثيرا من الناحية الوجودية، وتحافظ على أمنها واستقرارها.
وتنحسر الخسارة الظاهرة في الشق المادي، بسبب التوترات في جنوب البحر الأحمر جراء عمليات جماعة الحوثي في اليمن والرد عليها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، ما جعل قناة السويس تفقد أكثر من نصف عائداتها على مدار العام الماضي، وخسائر متفاوتة نتيجة ارتفاع أسعار السلع، وتهديدات تحيط بإمدادات الغذاء نتيجة كثافة الصراعات، ناهيك عن ارتدادات كل ذلك على الاقتصاد المصري وزيادة حدة الأزمة التي عصفت ببعض هياكله، وأثرت سلبا على أوضاع المواطنين وتصورات الحكومة، وأزعجت النظام برمته.
عاب كثيرون على النظام المصري عدم اشتباكه بخشونة مع الأزمات الإقليمية، أو بما يتناسب مع ما يشير إلى ضرورة تعظيم السياسة الخارجية، وبدا قريبا وبعيدا من غالبية القضايا التي تمس الأمن القومي للدولة. فلم تترك القاهرة أزمات ليبيا والسودان وقطاع غزة وسد النهضة، لكنها لم تقدم ما يظهر أنها نشطة بالدرجة الكافية، أو أنها تملك خطة تجعلها رقما مؤثرا فيها جميعا، وتستطيع تغيير الحسابات في كل منها، واكتفت بحد الكفاف في الحضور، ما خلق انطباعات بأنها هامشية.
في كل أزمة كانت مصر متفاعلة، ومتداخلة أحيانا معها بشكل مذهل، مع أن بها قوى إقليمية ودولية، معلنة وخفية، مباشرة وغير مباشرة، فضلا عن وجود وكلاء لبعض الأطراف في كل أزمة، ما أكد لاحقا أن السياسة الخارجية تسير وفقا لمنهج، وتتعامل مع الموقف وفقا لكل حالة، بما يقلل الخسائر التي يمكن أن تتكبدها، فأي اشتباك واسع كان يمكن أن يكلفها ثمنا باهظا.
وبدا الاقتراب أو الابتعاد محسوبا، لأن ما سيتمخض عن كليهما ليس سهلا، فكل الصراعات على بعد خطوات من الحدود المصرية، مع قناعة في القاهرة أن التدخل الكبير سوف تكون له تداعيات وخيمة، لن تستطيع الدولة تحملها اقتصاديا، وربما تجرها إلى سيناريوهات لا تحمد عقباها.
تكبدت مصر خسائر معنوية بسبب الصورة التي رسمت لها في مخيلة شريحة من المواطنين اعتقدوا مبكرا أن نظامها عبر بالبلاد إلى بر الأمان بعد أن خلصّها من سلطة جماعة الإخوان، وتجاوز بها التهديدات التي مثلتها جماعات العنف والإرهاب، وعليه أن يشرع في التمدد إقليميا، لأن الدفاع عن الأمن القومي يبدأ من المنطقة القريبة من الحدود المصرية، والسياسة الخارجية تنشط وتظهر كراماتها دوما في هذا المحيط، وهو ما لم يتم تلمس معالمه بجلاء السنوات الماضية.
إقرأ أيضا : سوريا على صفيح القوى الإقليمية!
وتركت هذه المسألة انطباعات تشي بالافتقار إلى رؤية أو خطة تعكس الإرث التاريخي للدور الإقليمي لمصر، والذي لا يترك لقوى منافسة تخصم من رصيده ومركزيته، أو تقوده للقيام بمهام غير مؤثرة، أو في أحسن الأحوال تقف على الحافة.
ظهرت النتائج السلبية لمن يتولون أمر السياسة الخارجية في أزمة سد النهضة الإثيوبي، حيث نفذت أديس أبابا رؤيتها ولم تهتم بمطالب القاهرة، التي خسرت في نظر كثيرين جولاتها التفاوضية، ولم تتمكن من استخدام بدائل أخرى.
لكن اللافت أن الحصيلة التي وصلت إليها في هذه الأزمة لم تضر بأمنها المائي حتى الآن، ما يعني أن إثيوبيا نفذت إرادتها دون أن تكبّد مصر خسائر ملموسة، أو أن الأخيرة لديها أدوات ضغط غير معلنة، ساعدتها على أن لا تفزع من الإجراءات الصلبة التي تبنتها أديس أبابا، وأفضت إلى عدم قلق النظام المصري من كل خطوات الملء التي قامت بها الحكومة الإثيوبية وأوشكت على الانتهاء منها.
لم تقدم القاهرة ما يثبت أنها قادرة على الضغط أو لديها أدوات تثني أديس أبابا عن المسار الذي اتخذته، وما زاد من اليقين أن السياسة الخارجية تفتقر للخطة في إدارة أزمة سد النهضة أن فئة كبيرة من المواطنين لم تجد من يقدم لها ما يطمئنها، ووجدت كل السبل تؤدي إلى إحباطها في هذه الأزمة، ونجحت إثيوبيا بامتياز في خطتها.
بدأت مصر تتبنى خطوات عملية للاقتراب من الصومال، عسكريا وسياسيا، ومن هنا بدا كأن هناك استدارة تتبناها السياسة الخارجية حيال المنطقة، تتخطى حدود الصومال وإثيوبيا، وتصل بها لتخفيض التوترات في جنوب البحر الأحمر، بل ترتبط برؤية أعمق وأوسع تتعلق بآليات تأمين الممرات التي تؤثر على قناة السويس في المستقبل.
جاء انخراط مصر بشكل أكبر في الأزمة السودانية مؤخرا، ووقوفها بجانب الجيش بلا مواربة، وشكوى قوات الدعم السريع من تدخل القاهرة، لتعزز التقديرات بوجود تغير في السياسة الخارجية تجاه هذا البعد الحيوي للأمن القومي.
وضاعفت القاهرة من تحركاتها لتطوير علاقاتها مع إريتريا وجيبوتي، بما يمكنها من تطويق إثيوبيا معنويا ويساعدها على الخروج من قوقعة ظلت فيها منكفئة على نفسها لسنوات، وأرخت بظلال قاتمة على دورها في المنطقة، منحت خصومها جرأة لعدم الاعتداد بمصالحها.
قد تكشف الفترة المقبلة عن تفاصيل جديدة تؤكد وجود خطة تدار من خلالها السياسة الخارجية، وأن الكمون كان تكتيكيا لتحقيق أهداف إستراتيجية، في وقت يمكن أن تتبدل فيه أدوار بعض القوى، ويشهد الشرق الأوسط تحولات دراماتيكية لم تكن بعيدة عن التوقعات المستقبلية لصانع القرار المصري منذ فترة طويلة.