مصير العلاقات الأميركية الإيرانية.. وعودة ترامب
استطاعت إيران مع الديموقراطيين بقيادة بايدن، أن تفرض معادلتها "رابح مقابل رابح"، ولذلك نجحت في عقد اتفاق موقت سري غير مكتوب مع الولايات المتحدة، حصلت بموجبه على أموالها المجمدة في الخارج.
انتهى اجتماع مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الربع السنوي في فيينا، الجمعة 8 آذار (مارس)، من دون تجاوز الخطوط الحمر التي فرضتها قواعد اللعبة بين واشنطن وطهران، إذ لم يُتّخذ قرار ضد إيران بما يهدد بعودة ملفها إلى مجلس الأمن ومن ثم عودة فرض العقوبات الدولية عليها، بل اقتصر الأمر على توصيات وتحذيرات، ما يدل إلى أن الولايات المتحدة الأميركية باقية، ما زالت إدارتها برئاسة الديموقراطي جو بايدن، على الحل السلمي مع إيران وتراهن على سياسة العقوبات والمفاوضات (العصا والجزرة) بدلاً من اللجوء إلى سياسة القوة.
ويبدو أن الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة في تشرين الثاني (نوفمبر) تؤثر بوضوح في سلوك إدارة بايدن، إذ ما زالت تحافظ على سياسة الصبر تجاه إيران التي نجحت من خلال سياسة خفض الالتزام النووي أن تحقّق لنفسها معادلة توازن أمام القوى الغربية، فهي تقوم بزيادة أنشطتها النووية رداً على أي قرارات متشددة تجاهها، ما يدفع القوى الغربية إلى مراجعة عواقب أي قرار قبل اتخاذه، ما دامت تريد الحفاظ على الحلول الدبلوماسية مع إيران.
عودة ترامب
بعد اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ربما تعطلت المحادثات النووية بين واشنطن وطهران؛ لكننا رأينا أيضاً كيف كان التصعيد حكيماً بين الطرفين، وكيف أن إدارتهما للمعركة في غزة أو خارجها كانت في إطار عدم تجاوز الخطوط الحمر.
هذا السيناريو سيكون مختلفاً لو كان الجمهوري دونالد ترامب في السلطة، إذ كان يفضل الحروب التجارية على نظيرتها العسكرية، لكنه أيضاً قد يتخذ مواقف سياسية حادة إذا ما حصل على مقابل سخي، على غرار خروجه من الاتفاق النووي عام 2018.
لذلك يبدو أن واشنطن وطهران تستعدان الآن لإنجاز شيء قبل تلك الانتخابات، لا سيما أن ترامب أثبت خلال “الثلثاء الكبير” في الاستطلاعات التمهيدية، قدرته على الفوز أمام منافسه بايدن الذي يقلق الشعب الأميركي من سنه المتقدمة (81 عاماً) وضعفه الجسدي والعقلي.
لا مشكلة لدى طهران في التعامل مع ترامب وإن كانت لا تفضله، فهي تدرك أن لا فرق بين الديموقراطيين والجمهوريين في التعامل مع الشرق الأوسط وإسرائيل، وأن الخلاف بينهما يدور حول قضايا مثل الناتو وأمن أوروبا والصراع مع روسيا وأزمة أوكرانيا، لكن وإن كانت أي إدارة أميركية ستأتي يتطلب منها الاعتراف بحل الدولتين لدعم عمليات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، فإن عودة ترامب تمثل طوق نجاة، ليس لإسرائيل فحسب، بل لشخصيات سياسية متطرفة مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو ما يهدد التوازن الأمني في المنطقة.
معادلة ربح-ربح
أيضاً، عودة ترامب تعني تعديل سلوك السياسة الخارجية التي تتبعها واشنطن، وهو ما يربك دولة مثل إيران لا تقبل بالمعادلة الصفرية التي انتهجتها إدارة ترامب، والتي تعني “رابح كل شيء أو خاسر كل شيء”، وهي معادلة تجارية أكثر منها سياسية، فالخاسر وجوده ضرورة ليكون هناك رابح! وهي معادلة أزعجت الأوروبيين حتى، إذ كان ترامب يصر طول الوقت على لعبة المزاد: مَن يدفع أكثر ليفوز بسلعته؟!
على العكس، استطاعت إيران مع الديموقراطيين بقيادة بايدن، أن تفرض معادلتها “رابح مقابل رابح”، ولذلك نجحت في عقد اتفاق موقت سري غير مكتوب مع الولايات المتحدة، حصلت بموجبه على أموالها المجمدة في الخارج ونجحت في تخفيف القيود عن صادراتها النفطية في مقابل تبادل السجناء الأميركيين.
وأيضاً تم ذلك في مقابل التزامها قواعد اللعبة السياسية التي تديرها واشنطن في المنطقة، والتي قوامها تحقيق الأمن بقوة التعاون الاقتصادي والتجاري، بدلاً من القوة العسكرية، وهو ما دفع طهران نحو سياسية “الأولوية لدول الجوار” والمصالحة السياسية مع الدول الخليجية والعربية في إطار دعم مصالحها الاقتصادية.
همهمات نووية
طوال أيام حرب غزة لم تتوقف الاتصالات بين واشنطن وطهران لضمان عدم تجاوز الخطوط الحمر ومنع الحرب من اتساعها خارج حدودها؛ لكن مع اقتراب محطة الانتخابات الأميركية بدأت تظهر همهمات نووية تشير إلى احتمالية عودة واشنطن وطهران إلى استئناف المحادثات بينهما ولو بصورة سرية، بخاصة أن إدارة بايدن بدأت تركز على ملف أوكرانيا بوصفه النقطة الأبرز تبايناً مع الجمهوريين في التعامل مع روسيا، إذ وجه بايدن إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين رسالةً في خطابه حول حال الاتحاد، الخميس 8 آذار (مارس)، بقوله: “لن نتراجع في أوكرانيا وسنقف في وجه سيد الكرملين”!
لذلك عندما كشف المنسق الأوروبي للمفاوضات النووية إنريكي مورا، عن محادثاته النووية مع كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري، في الدوحة الجمعة 8 آذار، قال إنها “تناولت رفع العقوبات في إطار الاتفاق النووي”، وأيضاً: “تناولت قضايا أخرى مثل الحرب في غزة والتعاون العسكري بين إيران وروسيا”، ما يعني أن إيران جزء من معادلة الحل للعديد من القضايا، وأن العودة إلى المحادثات النووية هي في إطار معادلة إقليمية أكثر منها علاقة ثنائية بين طرفين.
بناءً على ذلك، تزامن لقاء الدوحة مع همهمات نووية أخرى مع سلطنة عُمان، حيث أجرى وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان اتصالاً هاتفياً بنظيره العماني بدور البوسعيدي، تناول فيه الإشارة إلى غزة، وأيضاً انتقد سلوك واشنطن في ما يخص المفاوضات الهادفة إلى رفع العقوبات. ويأتي ذلك بينما تمثل سلطنة عمان قناة الاتصال والوساطة السرية الفاعلة بين واشنطن وطهران منذ أن استضافت المحادثات السرية التي أدت إلى الاتفاق النووي عام 2015.
مخاوف من اتساع الحرب
يبدو أن لدى واشنطن وطهران مخاوف مشتركة من ذهاب حكومة نتنياهو إلى توسيع دائرة الحرب، وذلك بدخولها مغامرة جديدة مع “حزب الله” اللبناني.
لذلك تأتي التصريحات الإنسانية المفاجئة من جانب واشنطن حول دعمها وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة وخطتها لبناء ميناء عائم على سواحل القطاع لاستقبال تلك المساعدات، في إطار مساعيها لإقناع حلفاء طهران بالتوقف عن عمليات التصعيد العسكري مع إسرائيل، وذلك لمنع اندلاع حرب جديدة في المنطقة.
وتدل الرسالة التي بعثها مندوب إيران في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني، إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والتي حذر فيها من أي مغامرة عسكرية تقوم بها إسرائيل ضد إيران أو لبنان أو سوريا، إلى أن طهران تضع بجدّية احتمالية الحرب في الحسبان، بخاصة بعدما أعلن نتنياهو نيته اجتياح رفح، وبعدها شن إسرائيل حرباً نفسية دارت حول: إما قبول “حزب الله” الابتعاد عن الحدود قبل 15 آذار (مارس) أو مواجهته حرباً شاملة.
هذا يعني أن نتنياهو يهرب إلى لأمام، للتغطية على فشله في غزة، وهو ما قد يمتد ليشمل اندلاع حرب مع جنوب لبنان، بخاصة أن إسرائيل لا تقبل الاكتفاء بإيقاف عجلة الحرب، بل تريد تحقيق معادلة أمنية تضمن بها مستقبلها في المرحلة القادمة، ومنها تفعيل القرار الأممي 1701 بإبعاد “حزب الله” عن الحدود الشمالية، بينما يرفض “حزب الله” النقاش في أي مفاوضات قبل إيقاف الحرب في غزة أولاً.
ولذلك دفعت واشنطن بمبعوثها آموس هوكشتاين إلى المراوحة بين تل أبيب وبيروت لنقل الرسائل وتقديم المغريات للبنانيين، وهو ما ترجمه لقاؤه مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي يمثل قناة الاتصال السياسي مع “حزب الله” داخل لبنان.
تدرك واشنطن أن إيران التزمت سياسة التصعيد الحكيم في حرب غزة، لكنها لا تضمن تكرار السياسة نفسها إذا ما اندلعت حرب مفتوحة بين تل أبيب وحليفها “حزب الله”، بخاصة أن إسرائيل تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة مع محور المقاومة، وهو ما قد يؤدي إلى الصدام مع إيران، لا سيما أن هذا المحور بمثابة القنبلة النووية البديلة وجزء مهم من نظرية الردع الإيرانية.
والمحصلة، أن واشنطن وطهران تجمعهما مخاوف من عودة ترامب ومغامرة نتنياهو بفتح جبهة حرب جديدة مع “حزب الله” اللبناني، قد تضع العلاقة بين الطرفين أمام ما لا تُحمد عقباه!