تقارير

مصوّرون صحافيّون في غزة بترت إسرائيل أقدامهم

صباح الثاني عشر من نيسان/ أبريل 2024، توجّهتُ مع زميلي إلى مدينة رفح جنوب المنطقة الجديدة في مخيم النصيرات. استقللنا سيارة العمل التي حملت شارة الصحافة، لنصل إلى النازحين ونوثّق معاناتهم ونزوحهم والمجازر التي ترتكب بحقهم”.

هكذا بدأ صباح ثالث أيام عيد الفطر عند الصحافي سامي شحادة (36 عاماً) من مدينة غزة، والذي يعمل في التصوير الصحافي منذ ما يزيد عن 18 عاماً، ليلتحق في حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة بالتلفزيون الرسمي التركي.

“توقّفنا في مكان يبعد أكثر من كيلومترين عن منطقة توغل الجيش الإسرائيلي لحرصنا على عدم تعريض حياتنا للخطر”، يقول شحادة لرصيف22.

استكشف المكان من خلال عدسة الكاميرا. لم يرصد أي حركة لآليات الجيش. وما إن انتهى من ذلك، حتى سمع صوت سقوط قذيفة فوقه.

“نظرت إلى رجلي اليمنى، فإذا بها مبتورة من أسفل الركبة، وتنزف”، يضيف شحادة، الذي زحف بضعة أمتار مبتعداً عن المكان نحو شارع فرعي.

وباستخدام حزام بنطاله، ربط رجله، إلى أن عاد الزملاء وبعض المواطنين وضمّدوا الجرح في محاولة لإيقاف النزيف. ومن هناك توجّهوا به إلى مستشفى العودة في جباليا، ثمّ إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.

“أملت أن تعود قدمي كما كانت بعد إجراء العملية. لكني استيقظت بعدها لأجد رجلي مبتورة من فوق الركبة”، يقول شحادة، الذي كان من المفترض بعد هذه اللحظة أن يستكمل علاجه في الخارج، لكن سرعان ما أغلق الجيش الإسرائيلي معبر رفح، منفذه الوحيد إلى العالم.

بقدم مبتورة، عاد شحادة فوراً إلى عمله وإلى رفيقة دربه، الكاميرا، وإلى البث المباشر في تغطية الحرب والمجازر المستمرة.

صحافيون آخرون بُترت أقدامهم في حروب سابقة سنراهم في الميدان، يلبسون ستراتهم وخوذاتهم ويتنقلون من مجزرة إلى مجزرة، ومن استهداف إلى آخر. يضاف عددهم إلى مئات الصحافيين الذين أصيبوا في مجمل حروب إسرائيل على القطاع، وإلى 136 شهيداً صحافيّاً منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الصحافي سامي شحادة

فقدان الأقدام خلال التغطية

حازم عبد الله سليمان (26 عاماً) من محافظة رفح واحد من هؤلاء. “بعد انقطاع قسري عن العمل ثلاث سنوات، عدت إلى العمل في التصوير الصحافي بقدم مبتورة. لم تقتلني الإصابة بل زادتني قوّة”، يقول لرصيف22.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره.

استهداف المدنيين المشاركين في مسيرات العودة التي انطلقت باتجاه الحدود الشرقية لمدينة غزة عام 2018، كانت سبباً وراء عمله الصحافي. “رغبت في توثيق الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين المطالبين بفك الحصار عن القطاع”، يؤكد سليمان.

بدأ بالعمل لدى وكالات بريطانية وإسبانية. غير أنه لم يمض على شروعه في العمل عدة أشهر، حتى أصيب في تموز/ يوليو 2018، بإعاقة دائمة.

“كنت أغطي مسيرات العودة في منطقة ملكة شرق غزة، مرتدياً سترتي الواقية. كنت واقفاً في مكان مكشوف لجنود الاحتلال. غير أني بوغتت باستهداف مباشر من قبل قناص. فأصبت بطلقين، أحدهما في قدمي اليمنى والآخر في اليسرى”، يقول سليمان شارحاً.

نُقل إثر الإصابة إلى مستشفى وعانى من تهتّك في الأنسجة وتهشّم في العظام والعضل في قدميه. ثم نُقل إلى مصر. وهناك أجريت له عمليات على مدار عامين باءت جميعها بالفشل، كما يقول. إلى أن بُترت قدمه. أجريت له أربع عمليات بتر أخرى ولا يزال بحاجة لواحدة جديدة بسبب تسوّس في العظم.

تتشابه قصة شحادة وسليمان وعودتهما إلى العمل رغم الإعاقة، عن قصة المصور الصحافي مؤمن قريقع (36 عاماً) من مدينة غزة.

شهد قريقع حروباً كثيرة، وعمل في الصحافة قرابة 18 عاماً. لكن في حرب عام 2088، بُترت قدمه. “كنت أعمل مع شركة مزود خدمات في الشرق الأوسط. وفي عام 2008. وفي يوم وقفة عرفة تحديداً، كنت أصوّر البضائع العالقة على جانب معبر “كارني” والقريب من السياج الحدودي في غزة، فتم استهدافنا بشكل مباشر من قبل طائرات الاحتلال. أصبت في قدميّ، واحدة بُترت من الجزع والأخرى تبقى منها 10 سنتمترات”، يقول قريقع.

الصحافي حازم سليمان

النهوض من الفقدان

يصف سليمان، وهو أب لثمانية أطفال، مرحلة الإصابة والعلاج، التي تسببت بانقطاعه عن العمل، بالكارثية. “لقد دخلت في حالة نفسية صعبة. وكانت لدي مشاعر مختلطة، لا سيما أنني كنت لا أزال في بداية عملي كمصور صحافي. فكنت متشوقاً لممارسة الصحافة ولدي طموحات كبيرة”، يقول.

ويردف: ” غير أن الاحتلال الإسرائيلي حطم أحلامي. ساورني شعور بأنني لن أعود للعمل مطلقاً، خاصّةً أنني لم أستطع تركيب طرف صناعي”.

عائلة سليمان لم تتوقع نهوضه أيضاً، بسبب الحالة النفسية المعقدة التي تملكته.

وبغصّة لم تخفَ في صوته، يقول سامي شحادة، وهو أب لطفلتين: “الشعور الكامن في أن تكون شخصاً طبيعياً بقدمين، وأن تجد نفسك فجأة ناقص طرف وبقدم واحدة، أمر صعب للغاية”.

ويضيف: “إنه خلل في الجسم، لكنه يسبب خللاً في حياتك. صرت أعتزل الآخرين وأجلس مع نفسي كي لا أسمع أي كلمة قد تشعرني بالضيق أو تهزني ولو قليلاً”.

مضى أربعة شهور منذ إصابة شحادة، ولا يزال الألم يلازم قدمه. “لكن ما يؤلمني أكثر هو غيابها”، يقول مؤكداً.

مكث شحادة في المستشفى قرابة الشهر. “كانت الأجواء هناك صعبة. الناس يصرخون لهول ما يرون من الشهداء والإصابات”، يقول.

إقرأ أيضا : ماذا لو كانت حماس فصيلا وطنيا وليس إخوانيا؟!

ويردف: “وفي لحظة، قررت أن لا شيء يمكنه أن يهزمني فنهضت من السرير. استخدمت العكازات وتوجهت إلى زملائي الصحافيين، وإلى الكاميرا التي اشتقت إليها، رفيقتي لعقدين من الزمن، وهي عيناي اللتان أرى من خلالهما، والشاهدة على إصابتي”.

لحظتئذ، كان زميل شحادة يتحضر للخروج في بث مباشر للقناة. فأصر على أن يقوم بتصويره بنفسه. “وهذا ما كان. صوّرتُ البث الحي. وتبع ذلك وقفات عديدة في الأيام التي تلت خروجي من المشفى”، يقول

ويؤكد أنه بات مضطراً لطلب المساعدة من الزملاء، كما هو الحال في المنزل، في القيام والجلوس والحاجات الأساسية. لكن على الرغم من هذه الحاجة، ورغم الشعور الذي راوده بأنه لن يعود إلى العمل، صمم على التغطية.

“لقد شهدت خمس حروب وصوّرت الكثير من المجازر الشنيعة بحق الأطفال والنساء والرجال والمواطنين المدنيين الآمنين، إلا أن إصراري على استكمال العمل ينبع من قناعتي أن رسالتي المهنية لم تنته. ولا يزال لدي الكثير لأعطيه”، يقول شحادة.

ويتابع: “لا يمكن لأي شيء أن يكسرني أو يمنعني من مزاولة مهنتي، حتى الإعاقة. لن أجلس منتظراً مساعدة أحد. سأستمر بالتصوير ولو على عكاز”.

لكن شحادة يحلم بأن يتمكن من الخروج من غزة ويحصل على طرف صناعي كي يعود للعمل بالطريقة التي اعتادها قبل الإصابة”.

أما المصّور الصحافي مؤمن قريقع، فتوقّف كذلك عن العمل وتلقى العلاج قرابة تسعة شهور. “لكني عدت إلى العمل على كرسي متحرك وبتشجيع من زوجتي وأهلي وأصدقائي. لم أتقبل فكرة أن أتحول إلى رقم يُقتل أو يُصاب من الاحتلال”، يقول.

ومن العقبات التي واجهها فور عودته إلى العمل، رفض بعض الزملاء لوجوده الذي يعيق حسب رأيهم حركتهم في التقاط الصور. بالإضافة إلى أن بيئته غير مهيئة للمعوّقين من أصحاب الكراسي المتحركة.

الصحافي مؤمن قريقع

التقاط الكادر واللحظة

وحول مدى تأثير إعاقته على ممارسة التصوير، يقول قريقع: “تغيرت نوعاً ما زوايا التصوير التي أعتمدها. فبجلوسي على كرسي، أملك رؤيا تختلف عن الإنسان ذي الحركة السوية. ولتخطي المشكلة، أقوم بدراسة الميدان والحدث الذي أنوي تغطيته قبل ذهابي إليه”.

يعمل قريقع حالياً مصوراً لوكالة نور الإيطالية، ومصوراً مستقلاً لعدد من الوكالات. “صحيح أن حركتي كانت صعبة عليّ في بيئتي المحيطة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى طاقة تضيء حول زملائي الذين أصيبوا وعادوا إلى العمل بعد الإصابة ليفضحوا جرائم الاحتلال”، يقول مضيفاً.

كذلك هي حال حازم سليمان، الذي تعايش مع البتر وقرر العودة إلى العمل. فصار فاعلاً على قنوات التواصل الاجتماعي. “واصلت التصوير وأظهرت الحياة الجميلة في غزة قبل الحرب. عملت صحافياً مستقلاً لجهات عديدة كالجزيرة ورؤيا وغيرهما”، يقول.

يدرك سليمان أن بتر قدمه يشكّل صعوبة في التنقل بسرعة من مكان إلى آخر والحصول على زاوية تصوير فضلى. كذلك يجد تحدياً في الاحتماء من الاستهدافات الإسرائيلية الحالية.فيقول: “ليس من السهولة أن تختار زاوية تصوير مناسبة وأنت على عكازين”.

ويكمل: “ولإصراري على الاستمرار في العمل، استخدمت دراجة هوائية بقدم واحدة. تمرنت على التنقل والتصوير وأنا أتجول بها. فرافقتني منذ عام 2020. حتى باتت جزءاً مني، أنقل فوقها الصورة والحدث في حرب الإبادة الجارية”.

يأمل سليمان، كما يأمل زملاؤه، أن تنتهي الحرب وأن يجري العملية التي تحتاجها قدمه في الخارج. وأن يعود ربما لتصوير غزة، كما كانت، مدينة جميلة.

نقلا عن رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى