ليبيا

مصر وليبيا.. مسار استثماري

من دروس العمالة المصرية في ليبيا عدم الرهان على الاستثمار في العمالة التقليدية، ومحاولة إيجاد منافذ أخرى لتعظيم الفوائد الاقتصادية، من هنا جاء التفكير في تطوير العلاقات مع قيادات متفرقة في ليبيا لتتمكن شركات مصرية من العمل والانتشار هناك.

بعد أن كتبت مقالا نشر الخميس الماضي في جريدة “الأهرام” المصرية بعنوان “معنى الاستثمارات المصرية في ليبيا”، حدثني صديق عربي عن توقيته، ودار نقاش طويل فتح أمامي الباب للعديد من النقاط التي تمكن إضافتها حول المضامين التي ينطوي عليها هذا الاتجاه الجديد على الدبلوماسية المصرية، ورأيت من الضروري طرحها من خلال منبر جريدة “العرب” تعميما للفائدة.

لم يُعرف عن مصر في العقود الماضية أنها تجيد توظيف مكونات الاستثمار في العلاقات الدولية، لأنها تعاني من أزمات اقتصادية معقدة ولا تملك فوائض مالية تسمح لها بالتمدد خارجيا، وتركز على جذب الاستثمارات إليها لمعالجة ما يتعرض له اقتصاد مصر من أوجه خلل مختلفة، تأمل قيادتها في إيجاد وسائل لعلاجها سريعا.

تخطت القاهرة هذه القاعدة مع ليبيا عبر دفع عدد من الشركات للعمل في ليبيا، وهي صيغة لا تحتاج إلى ضخ أموال كبيرة، وتستفيد من رغبة قيادات ليبية، شرقا وغربا، في الاستفادة من ثروة حصلوا عليها من عائدات سخية للنفط والغاز، وتريد توجيه جزء منها نحو إقامة مشروعات غالبيتها يتعلق بالبنية الأساسية المترهلة التي كشفت سيول وعواصف درنة هشاشتها مؤخرا.

تجاوز المسار المصري الاقتصادي عددا من الثوابت التي ترسخت في أذهان جهات عدة، فلم يعد قاصرا على فكرة تصدير مئات الآلاف من الأيدي العاملة البسيطة، وكانت أحد محددات العلاقة الاقتصادية والسياسية بين القاهرة وطرابلس في عهد العقيد الراحل معمر القذافي.

أذكر في القمة الأفريقية التي عقدت في مدينة سرت الليبية عام 2009 أن القذافي أطال خطابه إلى الفجر وهو يحاول إقناع القادة بالإعلان عن الولايات المتحدة الأفريقية في ذلك الوقت، غير أن خطته أو حلمه فشل، وانفضت القمة ومعها جيش كبير من الصحافيين ببيان عام يفيد بترحيل الخطوة إلى قمة لاحقة، وهو ما لم يحدث، فالقذافي رحل عن عالمنا ورحلت معه فكرته الخيالية التي لم يتحمس لها أحد بعد ذلك.

أشير إلى هذه القصة كمقدمة لسؤال طرحته على مسؤولة مصرية رفيعة كانت تتولى إدارة شؤون أفريقيا في وزارة الخارجية المصرية آنذاك، وهو لماذا كل هذا الصبر على أفكار العقيد القذافي البعيدة عن الواقع السياسي، فأجابت باقتضاب وبصورة دالة، بما يعني أن لدى مصر الملايين من العاملين في ليبيا، يمكن أن يعودوا إليها في أي لحظة، بما يمثل ضغطا على الاقتصاد الوطني.

رحل القذافي، ورجعت أعداد كبيرة إلى وطنهم، قسرا أو رضاء، واستوعبت الدولة المصرية تداعيات الخطوة، كما استوعبت مراراتها الاقتصادية عندما عاد ملايين المصريين من العراق ودول خليجية في ظروف متباينة.

من دروس العمالة المصرية في ليبيا عدم الرهان على الاستثمار في العمالة التقليدية، ومحاولة إيجاد منافذ أخرى لتعظيم الفوائد الاقتصادية، من هنا جاء التفكير في تطوير العلاقات مع قيادات متفرقة في ليبيا لتتمكن شركات مصرية من العمل والانتشار هناك، مع وجود فرص واعدة لمشروعات إعادة الإعمار، وتشييد بنية تحتية جديدة تستطيع مقاومة التحولات، وعدم الاستسلام لما أفرزته الأزمة من حروب وصراعات ونزاعات وجماعات مسلحة، أرخت بظلالها السلبية على اقتصاد البلاد.

كسرت القاهرة قاعدة تتعلق بحصر علاقاتها في شرق ليبيا لاعتبارات خاصة بالأمن القومي، فلم تعد الاستثمارات المصرية التي تعمل في مجالات الكهرباء والمياه والجسور والطرق والتجمعات السكنية قاصرة على الشرق، حيث امتدت إلى أقصى الغرب، وفي القلب العاصمة طرابلس، ولم ترتهن لقيود سياسية سابقة منعتها من تطوير علاقاتها مع الجميع، وسقطت الكثير من الكوابح التي حاولت قيادات تنتمي إلى جماعة الإخوان في ليبيا وضعها في طريق تمدد القاهرة اقتصاديا، ومنع الاستفادة من تجربتها في تشييد مشروعات تنموية عملاقة توسعت في جميع أنحاء مصر.

وجدت مصر أن إسقاط ما يشبه “التابوهات” أو المحرمات الاقتصادية يخدم مصالحها الإستراتيجية، ويساعدها دبلوماسيا عندما تنضج الظروف للحديث عن مبادرة سياسية قابلة للتطبيق، تقود إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بعد توافق قوى إقليمية ودولية سبقت مصر في عملية زيادة مصالحها الاقتصادية والعسكرية، دون انتظار انتهاء الأزمة الليبية، وحققت مكاسب كبيرة مبكرا، كأنها قرأت أن الأزمة مستمرة فترة طويلة ولا يجب رهن مصالحها بتسويتها.

تمكنت تركيا من تعزيز نفوذها في ليبيا وتجاوزت حصر مصالحها في غرب ليبيا، ونجحت في الاقتراب من الشرق، وهو ما تقوم به مصر بطريقة عكسية، فبعد تعزيز العلاقات مع الشرق انتقلت إلى الغرب، وأسهم التقارب بين القاهرة وأنقرة في إزالة عراقيل كثيرة أمام كليهما في ليبيا، فلم يعد الخلاف الحاد بينهما كما كان، وتم طي صفحات أعاقت تطوير علاقات كل جانب مع الجهة التي ساد اعتقاد أنها تقف ضده.

يكشف التوجه الاقتصادي المصري نحو ليبيا، ومن قبله التركي، عن عدم الوقوف عند بعض الإشكاليات السياسية متمثلة في العداء أو الخصومة الدائمة، فتعظيم الاستثمارات في دولة مثل ليبيا فيها السلطة مقسمة على جبهات عدة يفرض انفتاحا على جميع القوى، وما يظهر على السطح من خلاف مع هذا الطرف أو ذلك يأتي الاقتصاد ويتولى تذويب جوانب منه، لأن الحالة التي تعيشها ليبيا ربما تستمر فترة طويلة، ويصعب على مصر كدولة جوار ولها قواسم مشتركة مع الشعب الليبي أن ترى كعكة الاستثمارات تذهب بعيدا عنها.

خبرت القاهرة هذه اللعبة، وتغلبت على بعض الخلافات والحساسيات مع قوى ليبية، والتي حاولت جهات خارجية تجذيرها كي يظل تركيز مصر محصورا في الشرق، وتبقى تطلعاتها بعيدة عن الغرب، لأن توطيد العلاقات الاقتصادية يخلق شبكة مصالح تفضي إلى مكاسب سياسية في المستقبل، وبدت البيئة مهيأة مع مصر، بحكم العلاقات التاريخية بين البلدين التي كادت تتأثر بعد أن ظهرت ملامح حصرها في منطقة معينة.

ولذلك فتجاوز عقبة الفصل بين الشرق والغرب سياسيا، ومحاولة إيجاد توازنات بينهما من باب الاستثمار، سوف تكون لها نتائج إيجابية تمكن القاهرة من توسيع نطاق انخراطها في أي تسوية محتملة عقب تخفيض الحديث عن انحيازها لطرف دون آخر، لأن المشروعات التي تتولى شركات مصرية تشييدها في ليبيا تحتاج إلى غطاء رسمي لها من القوى صاحبة الثقل العسكري والسياسي في هذه المنطقة أو تلك.

ربما ما يدور في الكواليس بين القاهرة وقوى ليبية مختلفة أكبر مما هو معلن اقتصاديا، لأن تمدد المشروعات شرقا وغربا والترحيب بها يشير إلى أن هناك مقاربة جديدة ومتطورة بدأت مصر تعمل من خلالها على الأراضي الليبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى