مصر وأرض الصومال مواجهة غير مباشرة
توالت المناكفات والرسائل المتبادلة بين الجهات الأربع، مصر والصومال وإثيوبيا وإقليم أرض الصومال، خاصة أن التصريحات التي صدرت عن مسؤولين كبار في القاهرة أكدت حرصهم على دعم الحكومة المركزية في مقديشو بأنواع مختلفة من الدعم المادي والمعنوي، بما فيها العسكري، وهو ما أزعج أديس أبابا وهيرجيسا كثيرا
قادت إثيوبيا حملة ضد مصر بسبب قيامها بدعم الصومال وإرسال شحنات من الأسلحة والمعدات العسكرية إليها مؤخرا، ولم تظهر حكومة إقليم أرض الصومال في المشهد مباشرة، مع أن الأزمة الحالية نشبت بسببها، حيث وقعت اتفاقا مع أديس أبابا تحصل بموجبه على قاعدة بحرية وتسهيلات لوجستية في جنوب البحر الأحمر، وهو ما رفضته القاهرة ومقديشو معا باعتبار أن الإقليم غير معترف به رسميا من الجهات المعنية، وليس من حقه التوقيع على اتفاقيات أو برتوكولات ذات صبغة دولية.
جرت مياه كثيرة بين مصر والصومال من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، من دون أن يبدو إقليم أرض الصومال منخرطا بشكل كبير في الأزمة، وحاول النأي عنها قدر الإمكان وانتظار ما تسفر عنه المناوشات بين الطرفين، لكن تطورات عدة أجبرته على الاشتباك مع بعض من تفاصيل الأزمة، والإيحاء برفض أي دور لمصر، في تضامن واضح مع توجهات إثيوبيا.
أعلنت قيادة الإقليم فجأة إغلاق المكتبة المصرية في هيرجيسا (عاصمة أرض الصومال) لدواع أمنية، وهو ما ردت عليه القاهرة بمنع دخول المصريين الإقليم لاعتبارات أمنية أيضا، وهي رسالة تنطوي على إشارة بإمكانية استهداف المصريين أو الاحتكاك بهم عمدا، ما يوجد مشكلة جانبية تحرف الأنظار عن الأزمة الرئيسية.
ويؤدي الحديث عن تجاوزات أمنية محتملة إلى تفريغ أرض الصومال من أحد أهم مزاياها، حيث يتفاخر الإقليم بما يتمتع به من هدوء، مقارنة بغالبية أقاليم الصومال، وربما الدول المجاورة له، ما أضفى على القرار المصري بمنع السفر لهذا الإقليم معنى قاتما، لأن حياة من يزورونه قد تتعرض للتهديد في أي لحظة، بعيدا عن كونهم يحملون الجنسية المصرية أو غيرها.
توالت المناكفات والرسائل المتبادلة بين الجهات الأربع، مصر والصومال وإثيوبيا وإقليم أرض الصومال، خاصة أن التصريحات التي صدرت عن مسؤولين كبار في القاهرة أكدت حرصهم على دعم الحكومة المركزية في مقديشو بأنواع مختلفة من الدعم المادي والمعنوي، بما فيها العسكري، وهو ما أزعج أديس أبابا وهيرجيسا كثيرا، وبدأت تظهر إشارات يمكن أن تضع أرض الصومال في مأزق.
اعتقد هذا الإقليم وإثيوبيا، أن إقليم بونتلاند المجاور للأول، والذي تلقى شحنات أسلحة من الثانية مؤخرا سيكون داعما للتوجه نحو الانفصال والخروج من كنف الصومال، لكن المفاجأة أن بونتلاند أعلن عزمه الدخول في حوار مع الحكومة المركزية في الصومال، ما يعني عدم تأييد تحركات قامت أو ستقوم بها هيرجيسا وأديس أبابا.
قطعت هذه المسألة واحدا من الشرايين المهمة التي يعوّل عليها إقليم أرض الصومال لتقوية موقفه في قضيته بشأن عدم التناغم مع الصومال وهناك آخرون يسيرون على دربه، ومن الضروري الحصول على الانفصال.
زاد الموقف حرجا مع حرص تركيا على استمرار وساطتها بين مقديشو وأديس أبابا، وحديث أنقرة عن استئناف المفاوضات غير المباشرة بينهما قريبا، خوفا من انفلات الأوضاع بصورة أكثر غموضا، لأن تركيا لها مصالح حيوية مع الطرفين، بجانب مصر أيضا، ويمكنها أن تلعب دورا يسهم في إطفاء حريق قد يكبد دولا عدة خسائر.
قد يكون إقليم أرض الصومال أكثر أمنا وهدوءا واستقرارا وتنمية من الصومال ذاته، وتتوافر لديه جملة من مقومات الحصول على الانفصال، غير أن المشكلة معقدة ويصعب تفكيكها بسياسة الأمر الواقع، فعلى مدار أكثر من ثلاثين عاما من الانفصال عمليا عن مقديشو لم تفلح هيرجيسا في الحصول على اعتراف رسمي بها حتى الآن، وكل محاولاتها اصطدمت بعقبات إقليمية ودولية وصومالية، ولا تزال.
ما يعني أن حربها الحقيقية ليست مع مصر، وتحتاج لتخطيها ما يشبه المعجزة، وهو ما تدركه القاهرة جيدا، وتتحرك دبلوماسيا لترسيخه والحفاظ على عدم الإخلال به، ويبدو أن قادة أرض الصومال يعلمونه ويسعون إلى اختزال الأزمة في مصر.
قامت الصفقة بين هيرجيسا وأديس أبابا على أساس أن تمنح الأولى قاعدة بحرية وملحقاتها للثانية، وتقوم الثانية بالاعتراف رسميا بالأولى، وهو ما لا تملكه إثيوبيا، أو بمعنى أدق الاعتراف له طقوس تمر عبر المنظومة الدولية، ممثلة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الأمر الذي يصعب تمريره في ظل رفض دولة مثل الصين لها حق النقض (الفيتو) في المجلس، حيث تتشابه تايوان مع أرض الصومال في نقاط عدة.
وعلى الرغم من اعتراف دول عديدة بتايوان، إلا أن الصين على استعداد لمنع استقلالها رسميا بالقوة العسكرية، كما أن إثيوبيا نفسها يمثل اعترافها بأرض الصومال عبئا سياسيا داخليا عليها، في ظل وجود أقاليم تطالب بالانفصال، وأي اعتراف رسمي بأرض الصومال قد يمنح بعضا من هذه الأقاليم الحق في المطالبة بالموقف نفسه.
إضافة إلى ذلك المبدأ الذي أقرته منظمة الوحدة الأفريقية – أصبحت تسمى الاتحاد الأفريقي -، حيال عدم المساس بالحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية، لكن هناك دولا حصل فيها انفصال بعد استقلال نالته عقب حروب ضروس، مثل إريتريا التي انفصلت عن إثيوبيا، وجنوب السودان الذي انسلخ عن السودان، وكلاهما حصل على دعم سياسي خارجي خوّل الحصول على اعتراف رسمي، وانضمّا إلى المؤسسات الإقليمية والدولية، وهو ما لم يتوافر لإقليم أرض الصومال حاليا، الذي طور قدراته الذاتية من دون تطوير علاقاته وجعل هدفه مطلبا محوريا على الساحة الأفريقية.
إقرأ أيضا : بريطانيا تتجسس على غزة.. أيضاً
لن تصب التطورات المتلاحقة في صالح إقليم أرض الصومال، حيث بدأ يتحول إلى أزمة، وبعد أكثر من ثلاثة عقود نعم فيها بقدر عال من الاستقرار قد يدخل مرحلة من التوتر، ما لم يحل أزمته مع الحكومة المركزية في مقديشو سلميا، والتي تعلم أن حصول هذا الإقليم على الاستقلال يفتح الباب لأقاليم أخرى، ما يدخل الصومال والمنطقة في دوامة جديدة من التوتر، تمتد تأثيراتها إلى إثيوبيا ذاتها، التي تعتقد أن مصر طورت علاقاتها مع الصومال لمكايدتها، وتصفية حسابات معها بعد قيامها بملء وتشغيل سد النهضة.
دخل إقليم أرض الصومال أزمة لم يكن يتوقع أن تجلب تطوراتها تداعيات سلبية عليه، وهو يملك مشروعا ذاتيا مرر مقاطع كبيرة منه بسبب عزوفه عن التورط في مشكلات المنطقة وتبنيه سياسة الحياد والانكفاء على نفسه وتقديم ما حققه من إنجازات كنموذج يعزز مكاسبه وطموحاته في الاستقلال، لكن بما وصلت إليه الأوضاع مع كل من الصومال ومصر وإثيوبيا قد يدخل دوامة فضّل الابتعاد عنها السنوات الماضية، فالمنغصات التي يمكن أن يتسبب فيها الصومال كبيرة للإقليم، والذي يهمه أن تصبح البيئة المحيطة به هادئة، لأن نتائج التوترات فيها سوف تصيبه حتما، وربما تحرمه من الاستقرار الذي عاشه الفترة الماضية.