تختلف أو تتفق مع مؤسسة “تكوين” التي تدعو إلى التنوير ومواجهة ما يضعه السلفيون من حجْر على العقل، فقد أحدثت حراكا فكريا في مصر خلال الأيام الماضية، وأوجدت جدلا ونقاشا وحوارا، بعضها إيجابي وغالبيتها سلبية، تحتاجها مصر لتحريك المياه الراكدة، حيث تكلّست الحياة الثقافية بشكل غير مسبوق، ويكفي هذه المؤسسة أنها شجعت الكثيرين على الاشتباك مع قضية هي جزء من الشأن العام.
مهما كانت أهداف القائمين على “تكوين”، فإنها فتحت الباب لنقاشات فكرية وأحيت سنة غابت طويلا، ودفعت الكثيرين للعودة إلى الاشتباك مع الواقع من زوايا وجوانب متباينة، يحسبها البعض ضارة، لكن نفعها سيظهر لاحقا عندما يتأكد هؤلاء أن الساحة الثقافية غنية بالاجتهادات، مع أو ضد لا يهم، فالحراك الفكري يصطحب معه حراكا سياسيا، حيث يصعب وجود نشاط في الجانب الأول وخمول في الجانب الثاني.
لم تظهر كرامات ملموسة لمؤسسة “تكوين” حتى الآن، غير أنها استنفرت همم البعض للدفاع عنها أو التطاول عليها والتفتيش في نوايا وتاريخ أعضاء مجلس الأمناء، وهي عملية قاسية على من مستهم أضرار معنوية، إلا أنها تدفع الأقوياء منهم على المواجهة والصمود والدفاع عن الفكرة وتقديم رؤى تتجاوز إشكاليات التراث وتنقيحه وتجاذباته المتعلقة بالتكفير الذي يجيده المتشددون لقلب الطاولة على خصومهم.
تحتاج مصر إلى حراك سياسي، من خلال مؤسسة أو مركز أو حزب على غرار “تكوين”، يسهم في إثارة الجدل والنقاش في عدد كبير من القضايا، ليس بالضرورة أن تقتصر على النواحي المحلية، فالمرحلة التي تمر بها مصر في حاجة إلى إبداعات سياسية على المستويين الداخلي والخارجي، بأشكال تدور خارج نطاق المكونات التي تدور في فلك جهات مكبلة بحسابات رسمية، جعلتها إلى حد بعيد مقيدة في أفكارها، أو تدور غالبيتها في إطار محدد، يلتزم الكثيرون به خوفا من الخروج على النص والتعرض لمحاسبة قاسية، أو إيمانا بما يقومون به ومن يرشدونهم إليه.
دخلت مصر مرحلة عارمة من الفوضى السياسية بعد ثورة 25 يناير 2011، وتجاوز عدد الأحزاب التي حصلت على تراخيص قانونية المئة حزب، لا يستطيع الكثير من المصريين التعرف سوى على عدد محدود منها، قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما يعني أن هناك نمطية وتكرارا وانفلاتا، وأن رئاسة الحزب أو نيل منصب فيه تحولا إلى وظيفة وليسا عملا تطوعيا، ما جعل المهمة بعيدة عن العمل السياسي الحقيقي.
كما أن الدولة أرادت السيطرة على حالة الفوضى الحزبية ومنع جيوب جماعة الإخوان والمتطرفين من توظيفها، فأمعنت وبالغت في التضييق عليها، وجيّرت عددا من الأحزاب لخدمة أهداف الدولة المرحلية، حتى وصلت بعض الدوائر الرسمية إلى الامتعاض أحيانا من الدور الذي تلعبه أحزاب قريبة منها، والتي يحلو لبعض المصريين وصفها بـ“الكرتونية” كدليل على هشاشتها.
اجتهدت بعض الأحزاب المحسوبة على الحكومة أو ضدها، فأصابت وأخطأت، لكنها أخفقت في تحريك المياه السياسية، بما لا يتناسب مع التاريخ العريق للأحزاب في مصر ومعرفتها بأهمية دورها في الفضاء العام سابقا، خاصة وقت الاستعمار والتحديات المتعاظمة التي واجهتها الدولة في ذلك الوقت، ويمتد هذا التاريخ إلى أكثر من مئة عام، وأسهم جُلها بدور مهم في الحراك الداخلي والخارجي.
عندما شاهد مصريون ما أحدثته مؤسسة “تكوين” من حراك تمنى بعضهم ولادة سياسية لمؤسسة أخرى، تلعب دورا مشابها في مجال التنوير والتطوير للمساهمة في ملف الوعي على الصعيد السياسي، لأنه محدد مهم وقت أن تتزايد الصعوبات التي تحيط بالدولة، فلن يفيدها من يشيرون إلى كل شيء بالتمام، ولن ينفعها من يرون أنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان، إذ تستطيع الدولة أن تستفيد من الأفكار السياسية الخلّاقة التي يمكن طرحها بعيدا عن سلطتها، لأنها متحللة من القيود وتتمكن من تقديم تصورات مجردة من أية مصالح، وبعيدة عن عبارة “الوطنية مدفوعة الثمن”.
شاعت هذه العبارة سياسيا، لأن عددا كبيرا ممن يدافعون عن توجهات الدولة السياسية والاقتصادية والإعلامية، يعملون ضمن جهات تابعة لها مقابل أجور سخية، بينما معظم من يقدمون أفكارا جديرة بالمناقشة من خارج هذه الدائرة لا يتقاضون أجرا، وإطلاق العنان للفريق الثاني والعمل بشكل مقنن يجلب المزيد من الأفكار البديعة، ويجبر أنصار “الوطنية مدفوعة الثمن” أن يقدموا إسهامات يستفيد منها صانع القرار.
كل حراك سياسي يصب في حصّالة الدولة، فإن أصاب أصحابه فلهم أجران. أجر الاجتهاد والنصيحة الحقيقية. وإن أخطأوا فلهم أجر تشجيع الآخرين على تقديم ما هو أنفع، وما يعزز القناعات بعدم وجود ممانعات من قبل الدولة في ذلك أنها سمحت لـ“تكوين” بالانطلاق من القاهرة ولم تتدخل لتحجيمها أو دعمها رسميا.
وإذا كانت هناك أهداف خفية ألمح البعض إلى أنها تقف وراء خروج “تكوين” الفكرية للنور وأبرزها محاربة المتطرفين وشغل الناس بقضايا جانبية، فإن “تكوين” السياسية يمكن أن تحقق الغرض نفسه، والميزة التي توفرها هذه النوعية من المؤسسات تكمن في السماح بانطلاقها وكشف ما تنطوي عليه أجندات البعض من أهداف خفية، فالوجود الرسمي والظهور في العلن يحمي الدولة من الأفكار الخاطئة التي يتم التجهيز لها في الظلام، وما لم تصل جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر ما كان الكثيرون عرفوا نواياها الحقيقية التي نضجت خلف الكواليس وبعيدا عن دائرة الضوء.
من المهم أن تكون هناك جهة تشبه “تكوين” لمناقشة القضايا السياسية، فالتغيرات التي حدثت في مصر على مدار العقد الماضي كبيرة وتحتاج إلى مراجعة وتلاقح في الأفكار لاستخلاص العبر والدروس، لأن استمرار التصحر السياسي أو ترك فئة تزعم أنها تملك المعرفة وحدها يحمل افتراء على دور مصر ويخل بمكانتها، فلابد من فئات أخرى تطرح رؤى مغايرة ليتسنى وضع خيارات عديدة أمام صانع القرار.
وتفرض التحولات التي تشهدها المنطقة والترتيبات التي يتم التجهيز لها طريقة جديدة في التعامل معها من قبل الدولة المصرية، ويسهم الحراك السياسي في تغذيتها بروافد تتناسب مع التفاعلات المقبلة، تضاف إلى أفكار يتم إعدادها من جانب الأجهزة الرسمية.
ليس مطلوبا أن يكون الحراك لأجل المناكفات السياسية ووضع تصنيفات مطلقة للمؤيدين والمعارضين، فهذا يصلح عندما تكون هناك معركة انتخابية، ولأن المعركة الراهنة على مستقبل مصر فالأمر في حاجة إلى المزيد من العصف الذهني المحمّل بأفكار سياسية ناضجة تخدم الدولة، وليس شخصا للحصول على فائدة مادية معينة.