لا توجد عداوات أو صداقات دائمة بين الدول، فالمصالح الحيوية تتكفل بتغيير المواقف. وتطورت التفاعلات الدولية مؤخرا إلى درجة أنه صار بالإمكان التقارب والتفاهم، والتباعد والخلاف، في أزمة واحدة كبيرة. وبدأت الكثير من القوى تلجأ إلى هذه المعادلة بهدف تخطي إشكاليات وجودية. ولم تعد هناك ممانعات قاطعة للحوار أو عزوف عن النقاش عندما تظهر أزمة مستعصية على الحل، ففي لحظة معينة تبدو الخسائر باهظة ويمكن حدوث تحولات دراماتيكية لتحقيق مكاسب إذا كانت مقاربة الخصومة فادحة.
لمزيد من تفكيك هذه المقدمة وتوضيح أبعادها، يمكن القول إن التهنئة التي كتبها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على حسابه في منصة إكس لرئيس سوريا الجديد أحمد الشرع مؤخرا، تُفهم على أن القاهرة قررت النزول تدريجيا من أعلى الشجرة بشأن التعامل مع الإدارة الجديدة، فبعد اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي مع نظيره السوري أسعد الشيباني منذ أسابيع قليلة توقفت الإشارات المعلنة، ثم جاءت تهنئة السيسي لتضفي بعدا جديدا على مسار تصحيح العلاقات بين البلدين، ويتم تفسيرها باعتبارها محاولة للخروج من الجمود السياسي الذي اكتنفها منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي.
وفُسرت زيارة بدر عبدالعاطي لتركيا قبل أيام على أنها تمهيد للنزول درجة أخرى من أعلى الشجرة السورية، حيث تزامنت مع زيارة أحمد الشرع لأنقرة، وفي هذا التزامن دلالات سياسية مهمة، على الرغم من عدم حدوث لقاء مباشر بينهما في تركيا، فزيارة الوزير المصري عنوانها تعزيز العلاقات مع أنقرة، ومضمونها الخفي البحث عن وسيلة للنزول من أعلى الشجرة والجلوس على أرض مشتركة مع سوريا، فتركيا المعروفة بـ“عرّابة” النظام الجديد في دمشق ترى أهمية في توطيد علاقته مع القاهرة، لأنها تحمل مشروعية لمستوى التعامل مع جماعات الإسلام السياسي.
لا أحد يعلم طبيعة الحوار الذي دار في هذا السياق خلال زيارة عبدالعاطي لأنقرة، لكن من الواضح أن مصر لا تريد البقاء في معسكر الممانعة أو المتحفظة على الشرع، الذي يكتسب كل يوم مساحة لتطوير علاقاته مع بعض الدول العربية، وآخرها السعودية التي زارها، وبدت العلاقة معها مقبلة على مرحلة مهمة، تشهد نوعا مختلفا من التعاون بين الجانبين، وفهمت منه القاهرة أن الإدارة السورية قادرة على التكيف مع المعطيات الإقليمية، وتجاوز مطبات وضعها تاريخ قيادتها مع الجماعات الجهادية.
إقرأ أيضا : مرونة الدبلوماسية المصرية.. فلسطين وإدارة حوار “ما بعد العدوان”
وتقترب تقديرات مصر من تلك التي تتبناها دولة الإمارات حيال الموقف المتشدد من تيار الإسلام السياسي، وتحتاج كلتاهما إلى خطوات محددة من دمشق، تتجاوز الرسائل والتطمينات التقليدية، وإذا حدث تغير في حسابات إحداهما قد نجد تغيرا لدى الأخرى.
بدأت مصر تدرك أن الرئيس السوري يتصرف وفقا لمنهج أحمد الشرع، وليس بناء على منهج أبومحمد الجولاني، وكلاهما يرمز إلى مرحلة سياسية، ومن المهم إعادة النظر في هذه القضية، فسواء انفتحت القاهرة على دمشق أم لا فالرجل ماض في طريقه، لأن دولا عدة قبلت التعامل معه، بعضها فتح له ذراعيه ورحب بمساعدته.
ويلعب العرّاب التركي دورا مهما في تمهيد الطريق أمامه، وليس من المصلحة المصرية أن يصبح هناك عداء أو خلاف محتدم مع سوريا، في وقت تشهد فيه المنطقة تطورات سوف تعيد ترتيب المشهد بصورة ربما يصبح فيها الشرع رقما رئيسيا.
أبدت الإدارة السورية الجديدة نوعا من التجاوب مع بعض المخاوف المصرية عندما طردت أحد المنتمين إلى جماعة الإخوان (عبدالرحمن يوسف القرضاوي) من دمشق، ولم تعترض هي أو أنقرة على تسليم لبنان له لدولة الإمارات العربية، وحجمت من تحركات عناصر إخوانية سببت إزعاجا لمصر، وهي رسالة غير كافية لتطمين القاهرة، لكن تنم عن براغماتية ورغبة في المساعدة على عدم البقاء عند أعلى الشجرة.
معروف أن الموقف المصري من أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام لا يتعلق بخلاف حول سياسات أو ملفات أو قضايا، فهو خلاف جوهري حول الأدبيات والأيديولوجيات التي تبناها الرجل لفترة طويلة، وحملت في طياتها عداء للقيادة المصرية، غير أن التوقف عند هذه النقطة يزيد الأمر تفاقما، بما ينطوي على خسارة للطرفين، ومن الضروري البحث عن أوجه للتلاقي، إلى حين تندمل نقطة رئيسية تحتاج إلى وقت.
والمسافة الفاصلة بين الحاضر المحمل بأثقال الماضي المرير وبين العلاج المحمل بهموم مستقبل أفضل، سوف تستغرق وقتا، وبينهما تجري مياه كثيرة، لن يكون الطرفان مرتاحين لتدفقها في الاتجاه السلبي.
تمثل تهنئة السيسي للشرع بادرة حسنة، لأنها انطوت على اعتراف بشرعيته، وهي نقلة نوعية في سياق العلاقات الملتبسة بين الجانبين، لم تبن عليها القاهرة خطوات أخرى أو تتلقفها دمشق لإيجاد واقع جديد حتى الآن، ومع مرورها بهدوء، إلا أن ما حملته لا يخفى على أي مراقب للتصورات والتوجهات المصرية الصارمة حيال الماضي الذي يحمله الشرع على كتفيه ويحاول أن يلقي به بعيدا من خلال خطاب عصري يوحي بوجود اختلاف مركزي بين الماضي والحاضر، وتصميم على خلق صورة ذهنية تشير إلى استعداد للتفاهم في بعض القضايا مع جميع الدول.
يصعب أن ترهن مصر علاقتها بسوريا بالمواقف السابقة لقيادتها وهي ترى هذه القيادة تنفتح على دول عدة، ولن تعدم القاهرة التوصل إلى صيغة تجنبها صداما محتملا مع دمشق، فقد نسجت علاقات قوية مع حركة حماس الإخوانية التي تحكمت في قطاع غزة سنوات طويلة، وقبلت الوقوف بجانب قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في حربه مع قوات الدعم السريع وهي تعلم تنامي نفوذ الحركة الإسلامية داخل المؤسسة العسكرية السودانية.
وتعني هذه المقارنة أن العقدة الجهادية/ القاعدية مع الشرع لن تكون عائقا أمام مصر للتفاهم معه في بعض القضايا، وأن الإشارات المتبادلة التي يرسلها كل طرف إلى الثاني قد تصبح مقدمة لتغير ما، فالنظام المصري له مواقف ثابتة في العديد من الملفات الداخلية المتعلقة بجماعة الإخوان والمتطرفين، وهذه مسألة تشوبها مرونة في السياسة الخارجية، لأن هناك مصالح حيوية يصعب التفريط فيها، ولو كان الثمن المدفوع تغييرا جزئيا في بعض التوجهات، وهو ما ينطبق على الموقف من القيادة السورية التي تحرص على الإيحاء بالقطيعة مع ماضيها المتطرف.
تعد البراغماتية أداة من أدوات تحسين العلاقات بين الدول، وظهرت تجلياتها كثيرا في العديد من المناسبات، وقللت من المواقف الحدية، وجعلت الخلافات لا تلغي التفاهمات، ففي اللحظة التي تشعر فيها دولة ما بهبوب عاصفة سوف تنحني على أمل تصحيح الأوضاع لاحقا، لأن مقاطعة مصر للإدارة السورية لن تمثل ضغطا إقليميا كبيرا عليها، مع تزايد أعداد الدول التي تندمج معها أو تقترب منها.