تحتاج مصر إلى خطة عاجلة للتعامل مع الأزمة السودانية وتطويق الحرب بعد أن أفرزت مفرداتها ومناطقها وأطرافها، فقد مرّ أكثر من عام على الصراع المباشر بين قوات الجيش والدعم السريع دون أن تفضي أيّ مبادرة إلى وضع حد للحرب، ومنبر جدة الذي لقي زخما داخليا وخارجيا أصبح مجمدا، لا أحد يعلم هل سيعود إليه الطرفان أم تظل الحرب مشتعلة إلى أن تفرز تداعيات جديدة تقلق السودان وجيرانه، وفي مقدمتهم مصر وظهرت فيها مشاكل اجتماعية مع كثافة من انتقلوا إليها من السودانيين.
لا يعني انخراط مصر في التعامل مع نتائج الحرب الإسرائيلية على حدودها مع قطاع غزة أن تضع الحرب في السودان في مرتبة تالية، فالتحديات التي تواجهها على الجبهة الثانية لا تقل خطورة عن الجبهة الأولى، وربما يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وتبدأ عملية سياسية ويظل الصراع في السودان محتدما، ويفتح الباب لسيناريو الحرب الأهلية الذي لن يكون بعيدا، مع إصرار الجيش على حسم الموقف عسكريا وعدم قدرته على كسر شوكة الدعم السريع في المناطق التي تسيطر عليها.
لم تعدّل القاهرة موقفها المنحاز إلى المؤسسات العسكرية النظامية عموما، ما جعلها تبدو قريبة من الجيش السوداني، لكن تطورات المعارك على الأرض وطقوسها السياسية من خلال الحديث عن مفاوضات وتصاعد دور القوى الإسلامية في صفوف الجيش، أدت إلى انفتاحها على جميع الأطراف، بما فيها الدعم السريع.
واختلفت التوازنات التي ظهرت معالمها مع نشوب الحرب، ولم تعد متوقفة عند حدود الظواهر الأولى، متمثلة في حرب بين أجنحة عسكرية متصارعة داخل مؤسسة عسكرية كانت وعاء للجميع، فقد ظهرت بعض القوى المدنية كطرف ثالث في المعادلة، وأخذت الروافد السلبية لنزوح السودانيين على الأراضي المصرية تطفو على السطح وتسبب إزعاجا للقاهرة، في ظل التركيز على أبعادها الإنسانية.
فربما تؤثر بعض الأحداث ذات الصبغة الإنسانية على ما تم إصلاحه تلقائيا عقب تعاطف مصريين مع سودانيين في البداية وتأكد شريحة من نخبهم حرص مصر على أمن بلدهم واستقراره، وأن ما كان يتردد حول إضعاف السودان هو دعاية سوداء روّجت لها جماعة الإخوان في الخرطوم لمنع تمتين العلاقة مع النظام المصري.
ويهدف العزف على الوتر الإنساني وتضخيم الحديث عن حالات تنمّر أو تجاوزات وانتهاكات فردية، إلى تحويله إلى أداة تفسد ما تم إصلاحه شعبيا بين البلدين، فهناك الملايين من السودانيين الذين يقيمون في مصر منذ سنوات، أي قبل الحرب الحالية، وكان لا يتم الوقوف كثيرا عند الحوادث الفردية التي وقعت من وقت إلى آخر.
ولذلك فمحاولة اختزال العلاقة بين البلدين في بعض الحالات الفردية يرمي للضغط على مصر لإبداء مرونة أكثر في استقبال أعداد أكبر، وتخريب ما تم إصلاحه شعبيا وتعطيل مردوداته الإيجابية حاليا ومستقبلا، كي يتواءم مع أجندة الحركة الإسلامية التي ترى أهمية فائقة في إبعاد مصر عن السودان في حالتي السلم والحرب.
كشف الصراع بين الجيش والدعم السريع عن مفردات إقصائية، ملامحها متفاوتة بين الجانبين، لكن تقارير دولية حذرت من استمرار الحرب وما تقود إليه من مآس إنسانية في الداخل، تحمل معها ارتدادات متعددة على دول الجوار، التي تعاني من أزمات اقتصادية مركبة ولن تستطيع تحمل أعباء مضاعفة بسبب نزوح السودانيين.
كما أن الحرب تنتشر في مناطق عدة من السودان، ولن تصبح قاصرة على ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور وشمال كردفان، فمن الوارد أن تمتد نيرانها إلى منطقة شرق السودان التي تمثل أهمية إستراتيجية فائقة لمصر، وتظهر فيها معالم صراع دولي كبير يقلب التوازنات المتعارف عليها، وقد تنحرف الحرب الجارية عن مساراتها، بما يفضي إلى توترات ونزاعات تخلط الحسابات المصرية، وتتجاوز أزمة مياه النيل الهيكلية، فأهمية السودان فائقة لدى القاهرة، واهتزاز مفاصله غربا وشرقا، وجنوبا وشمالا، يعني هز بعض المفاصل الإقليمية لمصر.
تخطت إفرازات الحرب الحديث عن مواجهة بين طرفين رئيسيين هما: الجيش والدعم السريع، حيث دخلت على خطوطها بعد أشهر من اندلاعها، حركات مسلحة وقّعت على اتفاق جوبا للسلام وأخرى عزفت عنه، وجماعات قبلية لها انحيازات واضحة وتدافع عن مصالحها، وميليشيات أيديولوجية لها أهداف لإطالة أمد الحرب، ناهيك عن طيف واسع من الأحزاب السياسية والقوى المدنية لا يزال منقسما على نفسه، ما يشير إلى تزايد اللاعبين وتأثيراتهم على الصراع والمبادرات التي قد تطرح لاحقا.
تدفع هذه التعقيدات مصر نحو إيجاد المزيد من اليقظة والانتباه لخطورة ما يجري في السودان، وتوظيف إمكانياتها المتباينة، حيث تملك من العلاقات والأدوات والنفوذ ما يساعدها على أن يكون لها دور مؤثر لتطويق الحرب، والفرصة مهيأة من خلال انضمامها إلى منبر جدة، وفقا لرؤية الولايات المتحدة التي طالبت بمشاركة القاهرة وأبوظبي في المفاوضات، لأن طرح مبادرة مستقلة في هذه الأجواء يعني العودة إلى نقطة البداية، بينما القاعدة التي أرساها المنبر صالحة للبناء عليها، إذا وجدت دعما حقيقيا من قوى إقليمية ودولية، وضغطا على طرفي الصراع الرئيسيين.
قد تترك بعض القوى المعنية بالسودان أزمته إلى ما لانهاية أو إلى حين يقضي أحد الطرفين على الآخر وينهي إشكالية التوازن الظاهر في القدرات العسكرية، لكن الموقف بالنسبة إلى مصر أكثر صعوبة، فصمتها طويلا أو عزوفها عن التدخل بصورة عاجلة سيقود إلى توسيع نطاق الحرب، بما يفتح المجال لصراعات أهلية ممتدة، وتمهيد الطريق أمام العودة لحق تقرير مصير بعض الأقاليم، بما يؤدي إلى انفصالها عمليا عن الدولة، فالمعارك المستعرة تدفع قادتها إلى الانحياز لهذا الخيار المدفون في وجدان وعقل شريحة كبيرة من السودانيين في المناطق البعيدة عن المركز.
ظلت القاهرة رافضة فترة طويلة لعملية انفصال جنوب السودان وقبلت به كنوع من الأمر الواقع، وتعايشت مع فكرة الاستقلال على الرغم من مراراتها الإستراتيجية، ونجحت في تطوير العلاقات مع جوبا إلى أن تخطت جانبا مهما من عواقب الانفصال.
غير أن الأمر في حالات أخرى داخل السودان سيكون أشد وطأة، فالنتيجة المنتظرة التي سوف يقود إليها عدم وقف الصراع الحالي هي تمزيق السودان إلى دويلات، ما يمثل ضررا بالغا للأمن القومي المصري، ويعجّل بالمزيد من تحركات القاهرة في الاتجاه الذي يطوي الصراع ويطفئ جذوته قبل أن يتسع نطاق الحرب بالوكالة ويتحول السودان إلى لعبة أمم أخرى، تصبح فيها مصر هي أول المتضررين منها.