شهدت منطقة الساحل الإفريقي تحولًا إستراتيجيًّا في خريطة النفوذ الدولي في السنوات الأخيرة، حيث برزت روسيا بوصفها لاعبًا مؤثرًا يسعى إلى تعزيز وجوده في المنطقة التي كانت تقليديًّا مجالًا لنفوذ القوى الغربية، خاصة فرنسا. تعكس التحركات الروسية في الساحل الإفريقي مصالح متعددة، تشمل الجوانب الاقتصادية، والعسكرية، والجيوسياسية؛ مما يجعلها محورًا حيويًّا لموسكو ضمن إستراتيجيتها العالمية في مواجهة الغرب. تتمثل أهمية الساحل الإفريقي في موقعه الجغرافي الذي يربط بين شمال القارة وجنوبها، وموارده الطبيعية الغنية، والتحديات الأمنية المرتبطة بالإرهاب والجماعات المسلحة.
تسعى روسيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية، منها تعزيز النفوذ الجيوسياسي لمواجهة الهيمنة الغربية، والحصول على الموارد الطبيعية، مثل اليورانيوم والذهب، والتعاون العسكري والأمني لتقديم الدعم للحكومات الإفريقية التي تعاني تهديدات أمنية، فضلًا عن تحدي العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، من خلال إيجاد شركاء جدد، وممرات تجارية خارج نطاق السيطرة الغربية. تعتمد موسكو على عدة أدوات لتعزيز نفوذها في المنطقة، مثل التعاون العسكري من خلال شركات الأمن الخاصة، كمجموعة فاغنر، التي تعمل في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، وتوفير الدعم اللوجستي والتدريب العسكري، بالإضافة إلى الدبلوماسية الاقتصادية عبر استثماراتها في قطاعات التعدين والطاقة والزراعة. كما تستخدم روسيا الحرب الإعلامية والنفوذ الثقافي لتقديم نفسها حليفًا موثوقًا به ضد الاستعمار الجديد والتدخلات الغربية، حيث تعتمد على وسائل إعلام، مثل قناة “روسيا اليوم”؛ لنشر روايتها.
تواجه روسيا عدة تحديات في الساحل الإفريقي، منها الاضطرابات السياسية، والهشاشة الأمنية التي تجعل إقامة شراكات طويلة الأمد عملية مشكوكًا فيها، وتأثير الضغوط الاقتصادية الناجمة عن الحرب بأوكرانيا في قدرتها على الاستمرار في تقديم الدعم، فضلًا عن المنافسة الدولية القوية من الصين والقوى الغربية.
إقرأ أيضا :كيف يمكن لسنة 2025 أن تقرب بوتين من تحقيق النصر على أوروبا؟
في المقابل، لم يكن توسع النفوذ الروسي محل ترحيب غربي، حيث أصدرت الولايات المتحدة قانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة في إفريقيا عام 2022، وكثفت فرنسا جهودها الدبلوماسية لتعزيز تعاونها مع دول الساحل، لكنها تواجه تحديات نتيجة توجهات سياسية جديدة في المنطقة. هناك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي، منها سيناريو التوسع المستمر من خلال زيادة التعاون العسكري والاقتصادي، أو التراجع التدريجي نتيجة الضغوط الاقتصادية والسياسية، أو التعاون المتعدد الأطراف الذي يشهد توازنًا بين روسيا والصين وقوى أخرى. تعكس هذه العوامل تعقيد المشهد الجيوسياسي في الساحل الإفريقي، حيث تواصل روسيا إستراتيجيتها الحذرة في تعزيز نفوذها، مستفيدة من نقاط ضعف الغرب، واحتياجات دول المنطقة إلى الأمن والاستقرار.
إن المستقبل سيعتمد -إلى حد كبير- على قدرة روسيا على الحفاظ على تحالفاتها الإستراتيجية في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها التطورات السياسية والاقتصادية داخل القارة وخارجها، فالتنافس بين القوى العالمية في المنطقة يخلق بيئة ديناميكية معقدة، حيث تسعى كل من الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي إلى تأمين مصالحها الإستراتيجية من خلال برامج تنموية وعسكرية تتحدى الوجود الروسي. في هذا السياق، تعتمد روسيا على مرونة سياساتها في التكيف مع المتغيرات الإقليمية، مثل تعزيز التعاون الاقتصادي عبر شراكات طويلة الأمد في قطاع التعدين والطاقة، وتوسيع نطاق التعاون العسكري ليشمل تدريبات مشتركة، وصفقات تسليحية متقدمة.
إلى جانب الجوانب العسكرية والاقتصادية، تهدف موسكو إلى تعزيز نفوذها من خلال التعاون في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، حيث تسعى إلى الاستثمار في المشروعات التي تلبي احتياجات دول الساحل، وتضمن لروسيا موطئ قدم قويًّا ومستدامًا. ومن المرجح أن تستفيد روسيا من التوجه المتزايد نحو تعزيز الأمن الداخلي من خلال تقديم الدعم الاستخباراتي والتدريبي؛ ما يجعلها شريكًا موثوقًا به لحكومات المنطقة في مواجهة التحديات الأمنية المتنامية.
ومع ذلك، فإن استدامة هذا النفوذ ستتطلب توازنًا دقيقًا بين المصالح السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية، بالإضافة إلى تعزيز سمعتها كشريك يعتمد عليه في ظل الضغوط الخارجية التي تسعى إلى تقويض نفوذها المتنامي.
تركز روسيا أيضًا على تنفيذ مشروعات إستراتيجية في الساحل الإفريقي تشمل تطوير البنية التحتية، مثل شبكات النقل والطاقة، حيث وقّعت شركات روسية اتفاقيات في قطاعات التعدين والطاقة النووية مع دول مثل النيجر ومالي؛ لتعزيز الاعتماد على التكنولوجيا الروسية. إضافة إلى ذلك، يشمل التوجه الروسي إنشاء مشروعات زراعية تهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي، وتعزيز التبادل التجاري بين إفريقيا وروسيا، خاصة في ظل العقوبات الغربية التي حدّت من الخيارات الاقتصادية لموسكو. وتتمتع الشركات الروسية بحضور متزايد في مجال التنقيب عن المعادن، حيث تُسهم شركات مثل “روس جيولوجيا” في استكشاف احتياطيات الذهب واليورانيوم.
إن استمرار الوجود الروسي في الساحل الإفريقي يعتمد -على نحو كبير- على قدرته على تقديم بدائل فعالة ومستدامة للتنمية والبنية التحتية، بما يحقق التوازن بين المصالح الأمنية والاقتصادية. ومن المتوقع أن تعزز روسيا وجودها من خلال تنويع أدوات التأثير، لتشمل مجالات التعليم والتكنولوجيا ونقل المعرفة؛ ما قد يسهم في تعزيز صورتها كشريك إستراتيجي على المدى البعيد. في الوقت نفسه، يبرز التعاون المحتمل مع القوى الإقليمية، مثل الجزائر ومصر، عاملًا مساعدًا لتعزيز النفوذ الروسي، وتوسيع نطاق التعاون الأمني والاقتصادي؛ ما يمنح موسكو عمقًا استراتيجيًّا إضافيًّا في المنطقة. كما يتوقع أن تواجه روسيا تحديات متزايدة من التوجهات الإفريقية المتزايدة نحو تعزيز الاستقلالية، وتطوير العلاقات المتوازنة مع مختلف القوى العالمية، وهو ما قد يفرض على موسكو نهجًا أكثر تكيفًا مع المتغيرات الإقليمية والدولية.
من جهة أخرى، نشير إلى أن موسكو تسعى إلى تعزيز حضورها عبر برامج تدريب الكوادر الحكومية، وتطوير قطاع الطاقة المتجددة؛ ما يمنحها فرصة لبناء نفوذ مستدام يتخطى الجانب العسكري. وتتمثل أبرز مظاهر هذا التوجه في اتفاقيات تقوم على نقل الخبرة التقنية، وتوطين الصناعات المساندة، وهو ما يتيح لروسيا منافسة القوى الكبرى في حقل التنمية الشاملة بدلًا من التركيز على الجانب الأمني فحسب. في ضوء هذه المعطيات، يظل المشهد مفتوحًا على تطورات قد تحمل فرصًا جديدة أمام روسيا إذا نجحت في إثبات نفسها كمورد رئيس للتقنيات الحيوية، والشريك الأمثل في مجالات الطاقة والبنية التحتية، مع الحفاظ على مرونة سياسية توازن بين مصالحها ومطالب شركائها المحليين والإقليميين.
تؤشر المعطيات إلى أنَّ منطقة الساحل الإفريقي تحوَّلت إلى ساحة محورية لمنافسة عالمية وجدت فيها روسيا نافذة لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي على حساب النفوذ الغربي، مستفيدةً من هشاشة البنى التحتية الأمنية، واحتياجات دول المنطقة إلى الدعم التقني والتنموي، إذ ركَّزت موسكو على مشروعات تمتد من تعدين الموارد الطبيعية وتطوير الطاقة النووية والمتجددة وصولًا إلى التعاون في قطاعات الزراعة والبنية التحتية؛ ما سمح لها بطرح نموذج منافس ومتكامل يتجاوز الحلول الأمنية التقليدية. لكن في المقابل، تواجه روسيا تحديات خطيرة تتلخص في اضطراب الأوضاع الداخلية في دول الساحل، والضغوط الاقتصادية المترتبة على العقوبات المفروضة عليها، فضلًا عن الصعود القوي للصين، واستمرار الحضور الغربي. وبينما يمكن لنمط الشراكات التقنية والاستثمارية أن يرسِّخ موطئ القدم الروسي، سيظل نجاح موسكو مرهونًا بمدى قدرتها على الموازنة بين مصالحها الإستراتيجية وتطلعات حكومات المنطقة، فضلًا عن قدرتها على التكيُّف مع بيئة دولية متقلِّبة، تتطلَّب مرونة فائقة، وتجنُّب الانخراط في صراعات عسكرية ممتدّة.