اللجنة الادارية.. ومسيرة الشعب الفلسطيني
الموافقة على اللجنة الادارية في غزة تشير إلى استسلام مُضمر من قبل الطرف الفلسطيني الموافق عليها،لأنه أقرّ بالقبول بما هو أدنى، وتخلّى عن حقّه الوطني المتمثّل بانسحاب الاحتلال التام،وبإقامة الدولة والقدس والعودة.
لقد عايشتْ مسيرةُ الشعب الفلسطيني، منذ قرن، العديدَ من المحطات، التي شهدت أحداثاً أدّت إلى تحوّل عميق وكبير في مسيرة الشعب الفلسطيني،وكانت عبارة عن محطّات كبرى أسّست لما بعدها. فالنكبة، مثلاً،كانت انجرافاً هائلاً في طريق الشعب الفلسطيني، وقد أدى هذا الانجراف إلى تشظية الشعب وتوزيعه في غير مكان،ما خلق مجتمعات فلسطينية متعددة ومتنوعة، كما دفع الشعب الفلسطيني إلى البحث عن ذاته، ليجدها في الثورة الفلسطينية التي انطلقت العام 1965،وكانت هذه الانطلاقة عبارة عن محطة كبرى أخرى.
كما تعتبر الانتفاضة الكبرى نهاية 1987، تحوّلاً نوعياً وعميقاً،أكد على قدرة الشعب الفلسطيني في اجتراح أشكال جديدة للمقاومة، وعملت الانتفاضة على سدّ الفراغ الذي تركه خروج الثورة من بيروت وتوقف المقاومة المسلحة.لكن اتفاق أوسلو 1993 أدى إلى اعتراض هذه الانتفاضة وتبديد نتائجها المتوخّاة في تحقيق الخلاص الكامل.
وأعتقد أن الانتفاضة الثانية العام 2000 كانت محطّة صغيرة أكدت على أن دولة الإحتلال انقلبت على الاتفاق الأمني والسياسي مع م.ت.ف، وشرّعت الأبواب إلى مزيد من الاستيطان والتغوّل والاقتحامات وتدنيس المقدسات وتوقف العملية السياسية كاملة، ما يؤكد استحالة التوصل مع الاحتلال إلى أي حلّ!وتأتي أحداث يوم السابع من أكتوبر 2023 لتشكّل محطة هائلة وكبرى ومثيرة،سيكون لها آثارها وارتداداتها،ليس فقط على الصعيد الفلسطيني، بل الإقليمي والعالمي.
ومن الطبيعي أن تشكّل تلك المحطات،عوامل فاعلة، في تكوين وتحوير وتغيير الفكر السياسي الفلسطيني، إذ أن كل محطة هجست بفكرة وبأدبيات فكرية وسياسية،وجدت طريقها لتعبيد مرحلة إثر أخرى.وأرى أن السابع من أكتوبر سيكون حدثاً، لا يقل نفاذاً وتأثيراً، عمّا كان من قبله من أحداث ومحطات. وربما لن يتمكن المفكرون والمهتمّون من استخلاص نتائج هذا اليوم، وأرى أنهم بحاجة لأن ينتظروا قليلاً،حتى ينقشع غبار المعركة،لنرى الآثار العميقة والندوب التي تركها هذا اليوم وما تلاه..
وعلى الدنيا أن تعي بأنّ الاحتلال جعل العلاقة الوحيدة معنا هي علاقة اشتباك،بكل مستوياته.. وكلّ مَن يضع أساسا آخر لعلاقتنا القادمة مع الاحتلال غير التناقض والاشتباك،إنما يخون الشهداء، ويغسل يدي الاحتلال من دمنا.
..ومرّ عامٌ على اللحظة البارقة، التي أسّست لمرحلةٍ كونيّةٍ جديدة،هي الساعات الأولى من فجر السابع من أكتوبر2023، وما تبعها من مقاومة أدهشت الدنيا، بصلابتها وفرادتها وجسارتها الفذّة. وسنةٌ كاملة السواد تنطوي على جثث وركام ومشاهد غير مسبوقة، ولا تُحتمل!
وبعد مرور سنة على هذه الإبادة المحرقة المقتلة المجزرة المذبحة،المفتوحة على الهواء،وغير المسبوقة، نؤكد على أن الشعب الفلسطيني انتظر عقوداً من الصمت العالمي والعربي، على وجود إسرائيل الناتئ،إلى أن توحّشت،فاضطر أن يجابه غوليّتها وصلفها، ويدفع ثمن مواجهتها، من دمه ولحمه وبيوته وأشجاره ومؤسساته. بمعنى أن غزة تدفع ثمن صمت الكوكب الطويل والمشبوه.
كما نؤكد على أن الانسان الحرّ الجامح والمصمم على نيل حقوقه يستطيع أن ينتصر على التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وأن “السوبرمان”هو الإنسان وليس الآلة. فبعد عام من القصف والاجتياحات والأرض المحروقة،لم يستطع الاحتلال من تحقيق أهدافه المتمثلة باجتثاث المقاومة، وتحرير أسراه، وتحقيق الأمن والهدوء لمستوطناته.
وأن إسرائيل فقدت، وللأبد الأمن إذ بعد كل ما جرى لن تهنأ بيوم من الهدوء!وبمعنى أن الشعب الفلسطيني، ومهما تطاول الزمان، لن يقرّ ولن يفتر حتى ينال حقوقه المشروعة.ولقد أثبتت إسرائيل، خلال عدوانها السافر هذا؛بكل كتلتها البشرية،أنها نقيضنا الكامل،غير القابل للتفاهم أو التعايش معه. وقد رأينا إشارات حاسمة، على مدار عقود، بأن هذا الكيان غير قابل لأي شكل من صور القبول أو التعاون أو القبول.
إن يوم السابع من أكتوبر فتح المنصة الإقليمية على آخرها،وسنرى مشاهد غير متوقّعة، وصادمة، وسيكون هناك شرق أوسط جديد،يضجّ بغير طوفان ولهب وإبادة وخراب، وسيمحو أماكن وجغرافيات، ويبدّل وجوها وخطابات وولاءات.. بمعنى أن إسرائيل التي لن يردعها رادع، أذنت بفتح حرب “هارمجيدو” أو حرب يوم القيامة، وستذهب بعيدا في إلقاء وتوزيع لظى الموت في كل مكان،دون سقوف، وبانفلات كامل،ما يدفع بالآخرين لأن يبادلونها الفناء بالفناء.. وهذه بداية نهايتها المحتومة.
اقرأ أيضا| الفرص المتاحة للسلطة الفلسطينية بعد الحرب في قطاع غزة
إن ما قام به نتنياهو لا يعدو كونه محاولة صارمة وحاسمة وشرسة لإعادة ضبط الإقليم ،بالقوة،وعلى مقاس مصالحه ومصالح داعميه الأمريكان،وربما استطاع تثبيت نقاط متقدمة ،بسبب غياب الندّ العربي له والمانع لما يقوم به. لقد عرضوا على إسرائيل أن تضمن جميع دول المنطقة أمنها مقابل أن تسمح بقيام دولة فلسطينية، وأن ترسّم اسرائيل حدودها، لكن نتنياهو رفض!ما معنى ذلك؟معناه ما قاله وزير المالية المتطرف سموتريتش: “سنحتلّ مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق والسعودية.. فبالنسبة لكبار حكمائنا؛ قدر القدس أن تمتد حتى دمشق”، لإقامة إسرائيل الكبرى!ومعناه ما سمعتموه عن “ممرّ داوود”الذي يبدأ من الجولان المحتلّ، مرورا داخل سوريا،وصولا إلى مناطق الأكراد شمال سوريا والعراق، حيث القواعد الأمريكية، والفضاء المضمر لحلم دولة اليهود من النيل إلى الفرات!هذا الممرّ هو اللبنة الأولى لتحقيق وَهْم إسرائيل بمشروع دولتها الكبيرة.
وعلى رغم كل ما جرى، فإن السابع من أكتوبر قد جعل الاحتلال ذا كلفة عالية،ولم يعد(أرخص احتلال في الأرض)، إذ بدأت كلفة الحرب عالية ومبهظة على دولة الاحتلال؛قتلى وجرحى ونزوح وهجرة، وتدهور اقتصادي، وضغوط متعددة. وجعل القضية الفلسطينية تستعيد زخمها وألقها وحضورها على الساحة الدولية،فصارت شوارع الدنيا فلسطينية، وتتصدّر الأجندة العالمية في حقوق الإنسان. ومنع أو أوقف قطار التطبيع العربي العبري. ووضع كوابح حدّت من شهوة الاحتلال في الاستحواذ على الضفة الغربية وتهويد المقدسات،وأربكت الخطط اليهودية التي كانت مندفعة نحو ذلك.وجعل إسرائيل تخسر صورة الضحية التي كانت تحتكرها،وحال دون مواصلة تهويد المعرفة في العالَم.
والغريب العجيب، بعد عام الإبادة الممتد والمتواصل،وبعد مئات آلاف الضحايا والركام،لم تستطع،وربما لا تريد، الفصائل الفلسطينية من أن تتوحّد،ويصبح لها برنامج واحد وإيقاع واحد وتمثيل جامع تحت مظلّة واحدة! أليس هذا مدعاة للتساؤل والأسف،فما الذي سيوحّدنا إذا لم يوحّدنا ما جرى؟ إن “الوحدة الوطنية الفلسطينية هي “دُمية كافكا” الضائعة التي لم تجد مَن يعوّضنا عنها.. ولو بالكلام والوعود.لهذا أرى،اليوم،أن أمامنا أسئلة،علينا الإجابة عليها، تتعلّق بالتغيير المطلوب الآمن، المكوَّن من الفكرة،وأداة التغيير، وعتبة التغيير. وهي تحديات برسم النخب الوطنية والفكرية. ونشير إلى أن أداة التغيير تتولّد؛ إما من حراكٍ يُنتج قيادته، أو طليعة تخلّق الفعل والحراك، وصولا إلى بناء الكتلة الحرجة، التي عليها أن تحدث المطلوب، نحو تحقيق الهدف وإنجاز التغيير.
وغالبا ما تنتهي الحروب، بغير كيفيّة؛ إما بالمفاوضات، ليحقق كل طرف مقدار ما أنجزة عسكريا،على طاولة المفاوضات. أو استسلام طرف من الطرفين. أو يذهب الأقوى لإبهاظ الحاضنة البشرية لخصمه،بالإجرام ورفع الكلفة، ظناً منه بأن الخصم سيستسلم.. وهذا ما يريده الاحتلال،لأن النصر استعصى عليه في غزة، ما يفسّر هذه الوحشية المتواصلة والمجنونة،التي ستتصاعد وتتفاقم منذ أسابيع على جباليا وشمال غزة،خاصة،وكذلك في لبنان.
وأما “اللجنة” التي يتحدّثون عن التوافق عليها،لإدارة الشؤون الحياتية والإنسانية في غزة،هي من أخطر ما يكون؛لأنها ستكرّس الانقسام إلى الأبد،وستعطي الشرعية للاحتلال،ولأن أي لجنة يجب أن تنهض على وحدة الجغرافيا والموقف السياسي،أي مرجعيتها واحدة،وعلى وحدة مفهوم الخدمات.
والموافقة على اللجنة الادارية في غزة تشير إلى استسلام مُضمر من قبل الطرف الفلسطيني الموافق عليها،لأنه أقرّ بالقبول بما هو أدنى، وتخلّى عن حقّه الوطني المتمثّل بانسحاب الاحتلال التام،وبإقامة الدولة والقدس والعودة.وربما ستعمل اللجنة تحت ظلال جنود الاحتلال،بدعوى تخفيف الأثقال عن الناس وإدخال المعونات والترميم والإعمار..الخ.
مع إدراكي أن المسؤولية مرتبطة بالوعي أكثر من ارتباطها بالشجاعة، ما يعني أن مَنْ يعطيك رغيفاً سيأخذ مفتاح غرفة نومك،وأن المقولة الدينية تسبق الوطنية،خاصة إذا تعارضت الأخيرة مع خبز الناس وحليب أولادهم، فالناس حلفاء أيامهم أو مصالحهم أو حاجاتهم البسيطة. والسياسة اغتصاب طوعي أو عنيف.
وعلينا ألا نقلق على المقاومة كفكرة، لأن الأجيال القادمة تبعثها إذا ما خفتت، إنما قد نقلق على المقاومة، كفصائل وبنى تنظيمية. إذ ليس هناك صراع ببُعدٍ واحد،بيننا وبين الاحتلال، بل هناك احتلال نواجهه بنظرية تحرّر وطني طويلة وشاقة ومضنية، نخوضها أمام الغرب والخونة، وشهواتهم ومؤامراتهم وسياساتهم.