استغرب البعض تحفظي على ما تسمى لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة قطاع غزة مع أنني طالبت قبل سنوات باعتماد نظام الدولة الاتحادية أو الفيدرالية في دولة فلسطين أو أراضي السلطة الفلسطينية، بحيث تتشكل حكومة أو إدارة محلية في القطاع غير حزبية ولها نظير في الضفة الغربية تربط بينهما مرجعية مشتركة وهي منظمة التحرير الفلسطينية أو أي مرجعية وطنية يتم التوافق عليها.
كان سبب هذا الطرح ادراكي أن الانقسام الذي جرى في يونيو 2007 وأدى لسيطرة حماس على قطاع غزة لم يكن بسبب خلافات فلسطينية داخلية وخصوصاً بين حركتي فتح وحماس، بل تنفيذاً لمخطط إسرائيلي استراتيجي سابق وكانت خطوة شارون بالانسحاب من طرف واحد من القطاع عام 2005 بداية التنفيذ العملي موظفاً الانقسام الفلسطيني وتواجد حركة حماس العسكري الكبير في القطاع دون الضفة، وقد ساعدت حركة حماس في تنفيذ هذا المخطط عندما ادعت أنها حررت القطاع ثم عندما سيطرت عليه بالانقلاب؟
لأن إسرائيل هي التي صنعت الانقسام لأهداف استراتيجية تخدمها فلن تسمح بإعادة توحيد الضفة وغزة، حتى لو تصالحت فتح وحماس، وما يساعد العدو على الحفاظ على الانقسام هو تباين الأوضاع في القطاع عما يوجد في الضفة بسبب ظروف تاريخية والفصل الجغرافي والانقسام والخلافات السياسية والأيديولوجية وخصوصا إصرار حماس على العمل خارج الإطار الوطني ثم تكريس انفصالها عن الحالة الوطنية بارتباطها بإيران ومحور المقاومة. لكل ذلك فالعدو لن يسمح بتمدد السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة.
لذا كان يجب التفكير بحل لمشكلة قطاع غزة كحالة قد يستمر انفصالها عن بقية أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة دون قطيعة تامة مع المشروع الوطني التحرري ومع السلطة كنواة محتملة للدولة الفلسطينية.، ومن هذا المنطلق كتبت عدة مقالات تم نشرها في عدة صحف ومواقع عربية تناولت فيها فكرة الانتقال الى الدولة الفيدرالية، ففي منتصف أكتوبر 2018 كان المقال الأول تحت عنوان “نظام فيدرالي بديل عن الانفصال” وفي 11 يونيو 2021 تناولنا الموضوع في مقال بعنوان “الحذر من تجزئة القضية وتعدد مسارات التفاوض” عندما تسربت معلومات عن إجراء مفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل عن طريق وسطاء، وعدت للموضوع مجددا في 12 مارس 2023 بمقال تحت عنوان “مقترح لكسر معادلة الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية”، وأخيرا حلال الحرب وفي يوم 8 مارس 2024 تناولت الموضوع تحت عنوان “الحكومة الفلسطينية بين الضرورات الوطنية والاشتراطات الخارجية”.
كتبت بعد ذلك وخلال الحرب مطالبا بالتفكير بإدارة قطاع غزة من جهة وطنية فلسطينية (غزية) كبديل عن سلطة حماس وعن الاحتلال عندما تأكد لي استحالة عودة السلطة لغزة حتى مع إعلان الرئيس ابو مازن رغبته بالذهاب الى غزة أثناء الحرب، ورفض كل من حركة حماس وإسرائيل للفكرة، وقد حذرت حينها من أن يقبل الاحتلال بعودة السلطة الفلسطينية الى غزة مقابل تصفية وجودها في الضفة لتصبح غزة هي الدولة الموعودة في حل الدولتين.
فهمت حركة حماس هذا الاقتراح بشكل خاطئ وفسرته بأنه دعوة لحكومة أو إدارة محلية في غزة تشكلها وتقودها حماس وأخرى في الضفة تقودها حركة فتح، وقد تواصل معي بعض القيادات الحمساوية على هذا الأساس ولكني فسرت لهم ثم كتبت أن المقصود انهاء سلطة حماس في غزة واجراء انتخابات عامة يتم من خلالها تشكيل مجلس تشريعي محلي في غزة ومنه تنبثق الحكومة المحلية ونفس الأمر في الضفة، وتكون المرجعية والمشرف عل كل العملية القيادة الفلسطينية المشتركة في منظمة التحرير بعد انضواء كل الفصائل فيها أو أي جهة فلسطينية يتم التوافق عليها.
كان تحفظنا على لجنة الإسناد المجتمعي المقترحة ليس لأنها لجنة إسناد مجتمعي ستمارس نشاطها بهذه الصفة والتخصص مباشرة عند أسيسها قبل نهاية الحرب حتى توقف المجاعة وكل مآسي القطاع وتضع حدا لحالة الفوضى وانتشار عصابات سرقة المساعدات، كما لم يكن الرفض لأن الفصائل لن تختار أعضاءها بل سيتم اختيارهم من طرف إسرائيل وأميركا والاتحاد الأوروبي ودول عربية وسيتم تمريرهم من خلال الفصائل لإضفاء صفة الوطنية على اللجنة، بل كان تحفظنا لأنها ستمارس عملها في ظل الاحتلال ومع استمرار وجود حركة حماس وستكون تغطية على حكم مشترك لإسرائيل وحركة حماس دون علاقة فعلية بالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير ولا بأي استراتيجية وطنية لمرحلة ما بعد غزة.
كان الحديث عن مرسوم رئاسي مجرد جلب غطاء رسمي لإضفاء شرعية على هذه اللجنة أو حكومة دولة غزة والتي ستنسق مع اسرائيل واميركا ودول عربية مموِلة وستفتح باب الهجرة الطوعية للسكان مع تقديم تسهيلات وإغراءات مالية كما ستشرف على إعادة الإعمار وتتفاوض مع الجهات المذكورة على غاز ونفط غزة وترسيم حدود نهائية بين “دولة غزة” وإسرائيل وستكون هذه الدولة هي “دولة فلسطين” المذكورة في حل الدولتين وبذلك تنتهي القضية الفلسطينية.
إقرأ أيضا : حظر “تيك توك” أمريكا .. هل سيتراجع ترامب عن ذلك ؟
القيادة الفلسطينية تعلم أن إسرائيل التي صنعت الانقسام ورفضت عودة السلطة له طوال السنوات الماضية لن تقبل بإنهائه الآن وهي في أوج قوتها وتهدد كل دول المنطقة، كما أن رفضها ليس فقط خوفا من أن يؤدي تشكيل اللجنة لتكريس الانقسام الذي تكرس بالفعل قبل ذلك، بل إدراكاً منها من أن هذه اللجنة ستشكل خشبة انقاذ لحركة حماس وستساعدها على الاستمرار بحكم غزة حتى بما تبقى لها من عناصر وبموافقة إسرائيلية، حتى وإن كان نتنياهو يزعم أنه لن يسمح باستمرار سلطة حماس، وأن هذه اللجنة ستتحول للدولة الفلسطينية. قد يقول قائل إن عند البعض في السلطة ومنظمة التحرير نوايا سيئة تجاه قطاع غزة وتجاه من فكر وخطط لهذه اللجنة وهذه النوايا وراء رفض المنظمة وحركة فتح لجنة الإسناد المجتمعي! ولمع افتراض ذلك لماذا لا يتم تشكيل اللجنة بالفصائل المتواجدة في غزة والشخصيات الوطنية والاعتبارية في القطاع وبدعم عربي ودولي وتقوم بواجباتها في الإسناد والدعم وإدخال الطعام وكل متطلبات الحياة بل وحتى إدارة قطاع غزة بعيداً عن السلطة والمنظمة؟ ولماذا إشراك الرئاسة في الأمر من خلال إصدار مرسوم رئاسي بتشكيلها؟
نقولها بصراحة إن إسرائيل لن تسمح بعودة السلطة الحياة، طينية لغزة لتصبح سلطة في الضفة وغزة، وأن استمرار وجود سيطرة عسكرية وإدارة حكومية لحماس معناه استمرار المعاناة وقد يؤدي لتنفيذ مخطط التهجير كما لن يتم إعمار غزة مرة أخرى، وأن استمرار قتال حماس وبقية الفصائل في القطاع سيجلب مزيداً من الموت والدمار لغزة وكل القضية الوطنية، والحل تجريد قطاع غزة من السلاح وتفكيك وإنهاء التواجد المسلح وكل أشكال السيطرة لحركة حماس وتسليم المخطوفين الإسرائيليين ثم تشكيل لجنة أو حكومة غير فصائلية بأشراف عربي ودولي، أما الحديث عن لجنة أو حكومة تشارك فيها حماس وفي ظل استمرار السلاح والمسلحين فلن يكون إلا نوعاً من العبث والدجل والضحك على الشعب.
وأخيراً نقول نعم للجنة وحتى حكومة ادارية مؤقتة لإدارة قطاع غزة وإنقاذ ما تبقى من حجر وبشر ومنع التهجير القسري والاختياري، ولكن بعيداً عن حركة حماس وحتى عن كل الفصائل الفلسطينية دون قطع وقطيعة مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية.