لم يتفق الباحثون والمنظرون السياسيون على تعريف محدد لمفهوم السياسة الخارجية؛ فيقول الأستاذ الجامعي وعالم السياسة جيمس روزيناو: إن السياسة الخارجية “هي منهج للعمل، يتبعه الممثلون الرسميون بوعي من أجل العمل على تغيير موقف معين في النسق الدولي، بشكل يتفق مع الأهداف المحددة سلفًا”.
وبرأيي، إن السلوك السياسي الداخلي الذي تتبعه الأحزاب والجماعات السياسية الطامحة بالحكم هو سلوك ذو اتجاهين: داخلي وخارجي، ويكون بنفس النسق، ويبدو متناغمًا تكامليًا إذ أراد النجاح، وتحقيق الشرعية الداخلية والمشروعية الخارجية.
كان التحدي الكبير لدى هياكل المعارضة السورية بكل أطيافها، في صراعها مع نظام الأسد البائد، في تحقيق الشرعية الداخلية والمشروعية الخارجية. وخلال عملية “ردع العدوان” بقيادة هيئة تحرير الشام، بدأ هذا السلوك يتضح شيئًا فشيئًا من خلال النهج الداخلي أثناء المعركة، وانعكاسه على الفاعلين الدوليين الذين يخشون من زعزعة الأمن والسلم الدوليين، ومن خلال هذا السلوك بدأت الدول بإعادة حساباتها مع نظام الأسد البائد، ومع قوى الثورة أو – كما يطلق عليهم المجتمع الدولي – “المعارضة السورية”.
ونذكر هنا بعض الخطوات التي اتبعتها إدارة العمليات العسكرية؛ ومنها تصدير العملية على أنها إستراتيجية تتميز بأنها أقل درجة ممكنة من العنف والانتهاكات، وأنها تسعى للحفاظ على الأقليات والممتلكات العامة من خلال سلوك منضبط في التحرير، وزيارة الأماكن الدينية، والاطمئنان على سلامة المواطنين وكذلك طمأنتهم، وتوزيع الخبز أثناء العملية العسكرية، واستلام ملفات الحكومة، وإخراج المعتقلين، وإرساء السلم الأهلي من خلال العفو عن موظفي النظام البائد إلا من ارتكب جرمًا بحق الشعب السوري.
وهنا بدأت ملامح اكتساب المشروعية الدولية والشرعية الداخلية، والتي كانت تسبب قلقًا للشعب والمجتمع الدولي. وبعد سقوط نظام الأسد صرحت بعض الدول بتخوفها من نشوب حرب أهلية، قد تشكل خطرًا على الأمن والسلم الدوليين، لتبدأ الإدارة الجديدة في دمشق بإصدار تصريحات من خلال مقابلات تلفزيونية، تلتها زيارات مبعوث أممي ووزراء خارجية وأجهزة استخبارات، تستكشف سير العملية السياسية والأمنية في سوريا.
إقرأ أيضا : استراتيجية التنسيق بين دول الخليج وتركيا في سياسة الشيباني
وكان بعض الفاعلين الدوليين يراهنون على أن العملية السياسية هي تحت الوصاية التركية، أي أن السياسة الخارجية السورية ستكون أحادية الجانب مع تركيا وقطر فقط، وهذا ما جعل بعض الفاعلين الدوليين يعقدون اجتماع العقبة بهدف تحقيق الاستقرار الأمني، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وهذه المخاوف جعلتهم يطرحون حلولًا مثل تطبيق القرار 2254، والذي لا تتطابق بنوده مع الواقع السوري الجديد، كما وصفتها الإدارة في دمشق.
وهنا كان تقديم البرهان على عاتق الإدارة، التي سعت من خلال مقابلات وتصريحات لرسم مقاربات دولية جديدة، من خلال وضع محددات للانفتاح على الفاعلين الدوليين، مثل روسيا والمملكة العربية السعودية.
وهكذا بدأت الإدارة تتبع سلوكًا متعدد الأطراف في السياسة الخارجية السورية، وترجمته من خلال إرسال وفد حكومي تضمن وزيرَي الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات، حاملًا معه رسائل وبرامج طمأنة بالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، والعديد من الرسائل الدبلوماسية.
ففي زيارة إلى المملكة العربية السعودية، أكدت الإدارة على أنها ستؤدي دورًا إيجابيًا، وتنسج سياسات مشتركة تدعم الأمن والاستقرار؛ وبهذا حصلت على دعم المملكة العربية السعودية، التي أكدت على دعم وحدة أراضي سوريا وأمنها، والمساهمة في ازدهارها.
وبعدها انطلق الوفد لزيارة دولة قطر، وركز على تعزيز التعاون بين البلدين، وبناء شراكات إستراتيجية في إطار إعادة الإعمار والطاقة، وأكدت دولة قطر على تقديم كل أشكال الدعم، وأن تقوم بجهود دبلوماسية حثيثة على كافة المستويات الدولية، للمساهمة في رفع العقوبات المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة، وكذلك تمكين الإدارة الجديدة على الصعيدين: الاقتصادي والسياسي، ووجه الجانبان خطابًا مشتركًا لرفع العقوبات عن سوريا.
من ثم توجه الوفد لزيارة الإمارات العربية المتحدة، حيث حمل دعمًا من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، وتصريحًا من الولايات المتحدة الأميركية بدعم الإدارة السورية الجديدة، وهذا حمل رسائل طمأنة للإمارات بالحفاظ على الاستقرار السياسي والأمن والسلم الدوليين.
ثم قام الوفد بزيارة للمملكة الأردنية الهاشمية، وأكد الطرفان على التعاون الأمني والعسكري المشترك، وشكر الوفد المملكة على دعمها في إزالة العقوبات، وأكد أن البلدين سيشهدان انفتاحًا على مستوى الشركات، وأن الوضع الجديد لسوريا أنهى التهديدات للأردن بما يخص تهريب السلاح والمخدرات.
ونرى أن هذه الزيارات الدبلوماسية لوزير الخارجية أسعد الشيباني أتت بالتوازي مع طمأنات داخلية بشأن سير العملية الانتقالية، وتوسيع لجان التحضير لمؤتمر الحوار الوطني، ولقاءات مع السفراء السوريين وبعض المواطنين السوريين المقيمين في تلك الدول؛ فقد نجح هذا النشاط الدبلوماسي بالحصول على المشروعية الدولية، التي ستساهم بإثبات جهودها الخارجية والداخلية لإدارة سوريا، وبالتالي تصدير صورة للولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص من خلال الفاعلين الدوليين الذين زاروا الدولة بأنها ذات مشروعية دولية، وتتبع نهجًا إستراتيجيًا يراعي الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
ومن هنا تبدأ عملية رسم محددات السياسة الخارجية السورية بملامحها وتناغمها داخليًا وخارجيًا؛ فهذه السياسات هي التي تحدد مدى شرعية هذه الإدارة، ومشروعيتها على الصعيدين: الداخلي، والخارجي بوجود النضج السياسي لدى الإدارة، التي يعتبرها البعض مرسومة من بعض الدول الإقليمية، في حين يراها السياسيون على أنها مجموعة نشاطات داخلية وخارجية لتأطير الشرعية والمشروعية السياسية، وتثبيت انتصار الثورة على نظام الاستبداد، وتأكيد أن سوريا هي دولة ناضجة سياسيًا، وستنتقل بعد التعافي لتكون فاعلًا دوليًا مهمًا على الصعيدين: الإقليمي، والدولي.