على الرغم من الهدوء النسبي الذي باتت تشهده منطقة الشرق الأوسط، في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، إلا أن ثمة معركة دبلوماسية شعواء، تواجهها دول المنطقة، في لحظة حاسمة، من المفترض أن ترتكز على إعادة البناء، وتحقيق الاستقرار، وهو ما يرتبط بصورة مباشرة بإنهاء حالة الصراع، عبر الانتصار للشرعية الدولية، القائمة على حل الدولتين، خاصة وأن التجربة السابقة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الهدوء الإقليمي مرتبط بصورة مباشرة بفلسطين وقضيتها، وهو الأمر الذي يبدو ممتدا من ساحة المعركة العسكرية، إلى ساحات أخرى، ترتبط بالعديد من المجالات الحيوية، التي قد تؤثر على جزء كبير من كوكب الأرض، من بينها الاقتصاد والسياسة الداخلية للعديد من دول العالم، حتى وإن كان تأثيرا غير مباشر.
ولعل الحديث عن غزة، ومستقبلها، يمثل الأولوية القصوى في اللحظة الراهنة، على الأقل بالنسبة لمنطقتنا، وربما لرقعة جغرافية أوسع على كوكبنا، خاصة بعدما نجحت الجهود المبذولة في وقف إطلاق النار، وهو ما يعكس ضرورة التواصل بين القوى الإقليمية ونظيراتها الدولية الفاعلة في القضية الفلسطينية، والتي يمثل القطاع جزءً لا يتجزأ من مستقبلها، على أساس من الحوار المتوازن، الذي لا يخل بحقوق الشعوب التاريخية، ويحترم الشرعية على الأساس سالف الذكر، بحيث يكون هذا الحوار بمثابة مرحلة انتقالية من الميدان العسكري، إلى ميادين الدبلوماسية، التي لابد أن ينتهي بها المطاف نحو مفاوضات جادة، تفضي إلى السلام القائم على العدل، بينما يبقى العمل على جانب آخر، قائما على تعزيز تلك الحقوق الشرعية، عبر حشد أكبر دعم دولي ممكن لها، وهو ما تحقق بصورة كبيرة خلال الأشهر الماضية، ليمثل أحد الانتصارات المهمة للدبلوماسية الإقليمية التي قادتها مصر، خلال فترة العدوان.
والحوار بين مصر والولايات المتحدة، هو أحد أعمدة حالة التواصل المطلوبة في اللحظة الراهنة، وهو الأمر الذي ينبغي أن ينظر إليه في ضوء حزمة من الحقائق، أبرزها أن كلا الدولتين هما الأبرز والأكثر فاعلية، في تاريخ القضية الفلسطينية، وهو ما يبدو في العديد من المراحل الهامة، ربما أبرزها الشراكة التي جمعتهما معا بالإضافة إلى دولة قطر، خلال مفاوضات وقف إطلاق النار، بينما تبقى الإشارة إلى اختلاف المواقف في العديد من الموضوعات المرتبطة بالقضية والكيفية التي تدار بها مرحلة ما بعد العدوان، أمرا واردا في ضوء ثوابت معروفة لكلا البلدين، ولكن يبقى الاستقرار من المفترض أنه الهدف المنشود لجميع الأطراف.
إقرأ أيضا : خيارات مصر أمام الضغوط الأمريكية بشأن تهجير الفلسطينيين
وفي الواقع يبدو النهج المصري في التعامل مع الولايات المتحدة، خلال حقبة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، اعتمد في الأساس على نهج الشراكة عبر إدارة معركة غزة، وصولا إلى وقف إطلاق النار، بينما يقوم الرهان، خلال سنوات الرئيس الجديد دونالد ترامب، على إدارة مرحلة جديدة من الحوار، من المفترض أن تفضي إلى السلام، وهو ما تدركه واشنطن، وترجمه الاتصال الذي جرى مؤخرا بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الأمريكي، وهو ما يعكس، ليس فقط أهمية الدور الذي لعبته القاهرة منذ اندلاع العدوان، وإنما أيضا ما تحظى به الدبلوماسية المصرية من مرونة تستطيع من خلالها التعامل مع كل الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، بالإضافة إلى قدرتها على احتواء أي خلاف قدر يطفو على السطح عبر الحوار البناء، سواء فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة، أو القضية برمتها.
الرغبة في إدارة مستقبل القضية، عبر الحوار، بدا واضحا في الدعوات المتبادلة بين الرئيسيين لزيارة كلا منهما الآخر، وهو ما يعكس اهتماما كبيرا بخلق حالة حوار مستمرة، من أجل الوصول إلى توافقات فيما يتعلق بمستقبل القضية، وهو الأمر الذي يمكن توسيع دائرته ليشمل دولا أخرى، وقوى أخرى في مختلف مناطق العالم، في ضوء ما تحظى به القضية من زخم كبير خلال الأشهر الماضية مع سلسلة الاعترافات المتواترة بالدولة الفلسطينية خاصة من قبل قوى أوروبية مؤثرة
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية المصرية تتسم بقدر كبير من المرونة، خلال السنوات الماضية، ساهمت في تعزيز قدرتها على التعامل مع مختلف مراحل الأزمة، منذ العدوان، بينما تستطيع من خلالها التعامل مع الإدارات المختلفة في واشنطن، للوصول إلى توافقات جديدة تنسجم مع المرحلة الجديدة التي يشهدها الصراع، في إطار حوار جاد بين القاهرة وواشنطن، حول مرحلة “ما بعد العدوان”، وهو ما بدا واضحا في السنوات العشر الماضية، والتي تعاقبت خلالها 4 إدارات تحمل توجهات مختلفة، بدءً من إدارة أوباما، ثم ترامب، مرورا ببايدن، وحتى عودة ترامب مجددا، وهو الأمر الذي يرجع في الأساس إلى التحول من نهج التبعية المطلقة، نحو سياسة الشراكة القائمة على التوافق، من أجل تحقيق المصالح المشتركة، والتي عكست برجماتية مصرية، نجحت باقتدار في تحقيق طفرة كبيرة في الدور المصري، ربما بدا واضحا مع اندلاع أزمة غزة، والتي تعد الاختبار الإقليمي الأصعب منذ حقبة الربيع العربي، خاصة مع الجهود التي بذلتها القاهرة لتعزيز حالة الصمود في مواجهة محاولات إعادة نشر الفوضى التي يسعى إليها الاحتلال، ناهيك عن كونها قبلة زعماء العالم، من أجل الوصول إلى حلول جذرية فيما يتعلق باللحظة الراهنة المرتبطة بالعدوان، وإنما أيضا بتحقيق استقرار مستدام، يفضي إلى مفاوضات تقود إلى حل نهائي يتناغم مع الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، عبر تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.