الجزائر

مرشحو الرئاسيات الجزائرية وتحدّيات بناء المشروع الثقافي الوطني

يُرجع النقاد الجزائريون المتخصّصون في النقد الثقافي عدم وضوح الاستراتيجية الثقافية الجزائرية، خصوصاً في خطابات المؤطّرين للحملات الخاصة بالمترشحين الثلاثة للانتخابات الرئاسية، إلى عوامل عدة، منها شبه خلو وزارة الثقافة الجزائرية من النخب والإطارات المفكّرة ذات الاختصاص والتجربة الغنية في رسم معالم المشاريع الثقافية والفنية والفكرية الكبرى

لم تبقَ إلّا بضعة أيام معدودة على موعد ذهاب المواطنين والمواطنات في الجزائر إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس للبلاد، علماً أن الجالية الجزائرية في الخارج شرعت في هذه العملية في يوم الاثنين الفارط. ومن الملاحظ أن حملات المترشحين الثلاثة، وفي مقدّمتهم الرئيس الحالي عبد المجيد تبون، ركّزت في الأيام الأولى بشكل قوي على توضيح وتبليغ مفاصل برامجهم للمواطنين، كما قاموا أيضاً بتسليط الأضواء على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية مثل أزمة السكن، والبطالة، وارتفاع الأسعار وعدم تناسبها مع الرواتب، وخصوصاً رواتب العمال والفلاحين الضعيفة، التي يُنتظر أن يُعاد النظر فيها، بما يؤدي إلى تحسينها تدريجياً، بحسب الوعود التي أطلقها هؤلاء المترشحون.
في هذا السياق، يبدو أن المترشحين المذكورين آنفاً اكتفوا، في أثناء حملاتهم، بتقديم بعض الحلول الجانبية لمشكلات الثقافة الجزائرية. وفي هذا الخصوص، لاحظ عدد من المراقبين السياسيين الجزائريين، أن قضية الثقافة تُركت للأيام الأخيرة من عمر الحملات التي قادت هؤلاء المترشحين الثلاثة إلى معظم ولايات (محافظات) البلاد.
زيادة على ما تقدّم، إن التناول الرسمي الجزائري لقضايا الثقافة، الذي ظهر مجدداً في برامج الحملات الانتخابية التي عرفتها الجزائر العميقة منذ انطلاقها، تميّز بالتركيز على المسائل الإجرائية ذات الصلة بالتسيير الإداري وتنشيط الندوات والحفلات وصيانة بعض المواقع الأثرية… وهلمَّ جرّا. هنا، نجد عدداً معتبراً من المثقّفين الجزائريين قد دعوا إلى ضرورة إبراز الآليات التي تدعم وتحفّز عمليات ابتكار المنظورات الاستراتيجية التي يتمّ بموجبها إبداع الثقافة كبعد روحي جوهري من الواقع الاجتماعي المُتمفصِل مع البُعدين السياسي والاقتصادي.
ويمكننا الاتكاء على ملاحظات المفكّر المصري سمير أمين النقدية، التي سجّلها في دراساته المكتنزة حول ظاهرة تأخّر التنظير للبُعد الثقافي في عالمنا المعاصر بشكل عام، من أجل فهم بعض أوجه القصور في واقع الثقافة الجزائرية بشكل خاص.
في هذا الصدد، كتب أمين مبرزاً أن “البُعد الثقافي هو البُعد الأقل تقدّماً في المعرفة العلمية”، وذلك لأن “المجال الثقافي لا يزال محفوفاً بالأحكام العاطفية أو المسبقة”. وفي الواقع، هذا التشخيص العام لواقع الثقافة في العالم ينطبق كثيراً على الوضع الخاص بالثقافة الجزائرية.
وفي هذا الخصوص، يُرجع النقاد الجزائريون المتخصّصون في النقد الثقافي عدم وضوح الاستراتيجية الثقافية الجزائرية، خصوصاً في خطابات المؤطّرين للحملات الخاصة بالمترشحين الثلاثة للانتخابات الرئاسية، إلى عوامل عدة، منها شبه خلو وزارة الثقافة الجزائرية من النخب والإطارات المفكّرة ذات الاختصاص والتجربة الغنية في رسم معالم المشاريع الثقافية والفنية والفكرية الكبرى. إضافة إلى ذلك، هناك نقص فادح في خلق آليات التنسيق الأمثل بين وزارة الثقافة الجزائرية ونُخب المثقفين الوطنيين المتفتحين ووزارتي التعليم العالي والتعليم الابتدائي والإكمالي والثانوي.
جرّاء هذا النقص الفادح، لم تتمكن الإطارات المُشرفة على إدارة حملات المترشحين للانتخابات الرئاسية من تزويدهم بملف مشروع ثقافي وطني متكامل، بعد إخضاعه للمناقشات والإثراء من طرف مؤسسات وروابط المجتمع المدني والمؤسسات والأجهزة السياسية والأحزاب المختلفة، وبلورته كناظم نظري لمفهوم الثقافة الحديثة، وكدليل عملي متكامل على الممارسة الثقافية والفنية والفكرية في البلاد.
والحال، ينبغي الإشارة بعجالة إلى وجود الكثير من العناصر الفكرية والرؤى الثقافية والفنية ضمن تراكم الإنتاج الروحي الجزائري، قديماً وحديثاً وراهناً، حيث يمكن صنع بنية ثقافية وطنية منها في صورة مشروع متطوّر وحداثي، تنهض عليه الثقافة الجزائرية، إذ هناك عناصر “التوجيه الجمالي والأخلاقي والعملي” عند المفكر الجزائري مالك بن نبي، وهناك الأفكار التي تمخّضت عنها حركة التحرّر الوطني التي غذّت الثقافة الوطنية بالمخزون الثقافي الإنساني المتوسطي والإفريقي والعربي المشرقي، وهي بدورها في حاجة إلى التفعيل بما يُفضي إلى التشكيل المتواصل للهوية الجزائرية المرنة والمنفتحة على تعدّدية المرجعيات الثقافية ذات المضمون الإنساني.
في الواقع، الجزائر في حاجة ماسّة إلى تجاوز أنماط الذهنيات التقليدية التي كرَّست النظر إلى الثقافة كمجرد تنشيط وترفيه وتسلية، واختزالها في هياكل دور الثقافة، وقاعات المطالعة الشكلية، والمسارح التي تُحشر في المدن الكبرى فحسب، وقاعات السينما التي تفتح أبوابها موسمياً، ومعاهد التكوين الفني التي تفتقر إلى إطارات التكوين ذات الكفاءة، والقادرة على بناء معمار الشخصية القاعدية الثقافية والحضارية للأجيال الجديدة.
هناك مشكلات كثيرة أخرى تعرقل الثقافة في الجزائر، وكان منتظراً أن تُعالج جذرياً، مثل منح وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي وزارة التربية والتعليم صفة السيادة، وخلق مناخ صحّي فيها يجعلها تستقطب المواهب الناشئة وكبار المثقفين والمربّين الذين يتمتعون بأحدث بيداغوجيات الثقافة والفكر والفن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى