مذكرة الأنتربول: تصفية حسابات في المشهد السياسي بالسودان
هذا التحرك من قبل الحكومة يشير إلى محاولة يائسة لتشويه صورة المعارضة المدنية، في إطار سعيها لإضفاء شرعية زائفة على سلطتها من خلال بناء سرديات إعلامية تهدف إلى تجريم كل من يعارضها
قدمت حكومة بورتسودان مذكرة إلى الشرطة الدولية (الأنتربول) تطالب بالقبض على عدد من القيادات المدنية البارزة، وفي مقدمتهم د. عبد الله حمدوك. تضمنت المذكرة اتهامات خطيرة بالإبادة الجماعية، والتخريب، والانتهاكات الحقوقية، وهي اتهامات تبدو غير منطقية بالنظر إلى طبيعة الشخصيات المستهدفة، التي لم تشارك في أيّ أنشطة عسكرية أو أعمال عنف.
اقرأ أيضا.. مؤامرة التغيير الديموغرافي في السودان
هذا التحرك من قبل الحكومة يشير إلى محاولة يائسة لتشويه صورة المعارضة المدنية، في إطار سعيها لإضفاء شرعية زائفة على سلطتها من خلال بناء سرديات إعلامية تهدف إلى تجريم كل من يعارضها.
المفارقة في هذا الموقف أن الحكومة التي تقف وراء هذه الاتهامات هي نفسها التي أطاح بها الشعب السوداني في ثورة ديسمبر.
حكومة الإسلاميين، التي حكمت السودان لعقود طويلة بالحديد والنار، تحاول اليوم إعادة بسط نفوذها من خلال استخدام الأدوات القانونية الدولية التي كانت تتجاهلها أو ترفضها عندما كانت في السلطة. تستهدف هذه الحكومة قيادات مدنية لم ترفع سلاحًا ولم تتورط في أيّ أعمال عنف، بل كانت تسعى لتحقيق الانتقال إلى حكم مدني يحترم الحريات والحقوق التي ناضل الشعب السوداني من أجلها.
الهدف الحقيقي من وراء هذه المذكرة لا يقتصر على ملاحقة قانونية أو تحقيق العدالة، بل يتمثل في محاولة استغلال القانون كأداة سياسية لتشويه صورة المدنيين وتجريمهم أمام الرأي العام المحلي والدولي.
تسعى الحكومة من خلال هذه الخطوة إلى تصوير الأحزاب والقوى المعارضة كأعداء للشعب السوداني، وخلق معارك وهمية تهدف إلى تغطية هزائمها الدبلوماسية والعسكرية.
استخدام الأنتربول بهذه الطريقة يشير إلى أزمة ثقة لدى الحكومة في قدرتها على مواجهة الواقع السياسي دون اللجوء إلى وسائل القمع والتهديد.
وعلى الرغم من إدراك حكومة بورتسودان لضعف حججها القانونية، إلا أنها تستمر في هذا المسار كجزء من محاولة يائسة لتعزيز شرعيتها المهتزة. وهذه الحملة تكشف عن عمق الأزمة التي يمر بها النظام الحاكم، الذي يفتقر إلى قاعدة شعبية حقيقية ويعاني من عزلة دولية متزايدة. وفي هذا الإطار، تستهدف الحكومة القوى المدنية لأنها ترى فيها تهديدًا لمشروعها السلطوي، خاصة بعد الثورة التي أطاحت بالإسلاميين من السلطة.
أحد أبرز مظاهر هذه الأزمة هو السماح لقيادات الإخوان المسلمين بالعودة إلى النشاط السياسي بعد اندلاع الحرب، تحت حماية القوات النظامية. فبعض الشخصيات البارزة مثل نافع علي نافع تم تهريبها إلى الخارج، مما يعكس مستوى التعاون بين الحكومة والجماعات الإسلامية المتطرفة. وفي الوقت الذي تلاحق فيه الحكومة المدنيين، تتجاهل تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، مثل الرئيس السابق عمر البشير.
هذا التوجه يثير تساؤلات جدية حول الأبعاد الأخلاقية والسياسية للحكومة الحالية، ومدى قدرة الحكومة على تحقيق العدالة أو الحفاظ على سيادة القانون. بينما تتم ملاحقة شخصيات معروفة بمواقفها المدنية، تبقى أيدي قيادات النظام السابق مطلقة دون محاسبة، مما يعكس تلاعباً واضحاً بالعدالة لتحقيق أغراض سياسية.
المعركة التي تخوضها حكومة بورتسودان لم تعد موجهة فقط ضد القيادات المدنية، بل أصبحت معركة موجّهة ضد مستقبل السودان كدولة مدنية. فهناك دلائل متزايدة تشير إلى أن بعض القيادات الإسلامية تسعى لتحقيق مصالحة مع قوات الدعم السريع بهدف اقتسام السلطة وإقصاء القوى المدنية. هذا التصور يعكس الأوهام التي لطالما راودت الإسلاميين، الذين يعتقدون أنهم الأذكى والأقدر على إدارة الصراعات السياسية.
إن استمرار هذه الأوهام لدى القيادات الإسلامية يعيد تكرار نمط من التفكير السياسي القائم على فكرة التحالفات المصلحية قصيرة المدى، والتي قد تضمن لهم السيطرة لفترة معينة، لكنها في النهاية تساهم في تفكيك الدولة وتعمّق الأزمات. وهذا النوع من التفكير يُبرز غياب رؤية إستراتيجية طويلة الأمد تضمن استقرار السودان وتحقيق تطلعات الشعب في الحرية والعدالة.
من الجوانب الأكثر إثارة للسخط في هذه الأزمة هو الازدواجية في التعامل مع قضايا العدالة. ففي الوقت الذي تطالب فيه حكومة بورتسودان بملاحقة المدنيين الذين لم يشاركوا في أعمال عنف، تتجاهل الحكومة نفسها تمامًا تقديم المسؤولين عن الجرائم الجسيمة إلى العدالة، وعلى رأسهم البشير.
فعدم اتخاذ أيّ خطوات جادة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في عهد النظام البائد يسلط الضوء على الإفلات من العقاب الذي أصبح سمة بارزة للنظام الحالي.
إن هذه الازدواجية تؤثر بشكل سلبي على ثقة الشعب السوداني في المؤسسات القضائية والدولة ككل. وبينما تتم ملاحقة المدنيين، يبقى المتورطون في الجرائم الحقيقية بمنأى عن المحاسبة، مما يبرز مدى تسييس العدالة في السودان. والشعب السوداني، الذي ناضل طويلًا من أجل إسقاط النظام السابق، يراقب هذا المشهد بحذر وقلق، حيث تُهدر فرص تحقيق الانتقال الديمقراطي الحقيقي.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن حكومة بورتسودان تحاول توجيه الأنظار عن أزماتها الداخلية من خلال خلق هذه المعارك الوهمية.
الشعب السوداني يدرك جيدًا أن الهدف الحقيقي من هذه الممارسات هو قمع المعارضة وتصفية الحسابات السياسية، وليس السعي لتحقيق العدالة أو مصلحة البلاد.
إن التحديات التي يواجهها الشعب السوداني تتطلب من القوى السياسية المختلفة، المدنية والعسكرية، العمل معًا من أجل بناء مستقبل يتسم بالحرية والعدالة. وفي الوقت الذي يسعى فيه النظام الحاكم إلى تشويه صورة خصومه، يبقى الرهان على وعي الشعب وقدرته على تحقيق التغيير.
في نهاية المطاف، تشكل مذكرة الأنتربول أداة جديدة في سياق الصراع السياسي في السودان، حيث تبرز محاولات الحكومة للعودة إلى المشهد السياسي عبر أساليب قمعية.
إن استغلال الأنتربول كمصدر للضغط على المعارضين يعد بمثابة إنذار لكل من يسعى إلى تحقيق العدالة في السودان. ويبقى الأمل معقودًا على الشعب السوداني الذي لا يزال يتطلع إلى تحقيق العدالة والحرية، والعمل نحو بناء دولة مدنية ديمقراطية تحقق تطلعاتهم وآمالهم.