مذبحة موسكو.. هل مُخطط لتفجير علاقات روسيا بالعالم؟
على رغم التحفظ الذي أبداه بوتين في إطلالته بعد المجزرة، وعلى رغم مسارعة دول العالم، وفي المقدمة أميركا، إلى إدانة الجريمة وإبداء التعاطف مع الشعب الروسي، فإن ميلاً شديداً ظهر لدى عدد من المسؤولين الروس إلى تحميل أوكرانيا مسؤولية الهجوم من دون انتظار نتيجة التحقيق.
ليس واضحاً ما إذا كان اختيار تنظيم “داعش- خراسان” تاريخ 22 مارس (آذار) الجاري لارتكاب مجزرة المركز التجاري في موسكو، على صلة بالذكرى الخامسة للقضاء على آخر معاقله ودولته في سوريا والذي تم في ختام حرب دولية طويلة ضد هذا التنظيم قضت على خلافته السورية- العراقية واختتمت رسمياً في الـ23 من مارس في الباغوز السورية.
لم يوضح “داعش” في بيانه عن غزوة موسكو الدموية أهدافه ولا توقيته، وإن كانت تحليلات قديمة تحدثت عن غضبه من دور روسيا في سوريا وتدخلها لحماية النظام و”مكافحة الإرهاب” منذ عام 2015.
الحراك الـ”داعشي” لم يتوقف مع ذلك في سوريا ولا في العراق، وإن كانت هجمات التنظيم تتم بوتيرة أبطأ وفي عمليات متفرقة وليس كما في ذروة نشاطه عندما وزع جرائمه في نواحي أوروبا وأفريقيا. آخر هجمات التنظيم الباردة كانت في كرمان الإيرانية عندما استهدف بالمتفجرات المحتفلين بذكرى قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني.
الهجوم الإرهابي في روسيا، الخارجة من تجديد كاسح للرئيس فلاديمير بوتين، تم في سياق مختلف، لا هو هجوم يحمل معنى الانتقام العقائدي، وليست روسيا الآن في الموقع الأكثر صدامية مع تنظيمات الإرهاب المعادية للغرب في المبدأ، باسم الدين أو باسم التناقض الحضاري والأيديولوجي.
لم تحرك حرب غزة جماعة خراسان، ولا “قاعدتها” الأم، بل اختارت مواطني موسكو هدفاً للقتل والترويع مما يجعل الأسئلة تتزاحم وفي رأسها هل الهدف دفع التوتر الروسي- الأوكراني- الغربي إلى الانفجار الشامل، وبذلك من يقف وراء مخطط كهذا؟، هل هي دولة أو مجموعة دول؟، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن بقايا التنظيم الإرهابي ومتفرعاته لم تكن بعيدة أبداً من أجهزة الاستخبارات ومصالح الأنظمة المتناقضة.
اختار مخططو الجريمة توقيتاً بالغ الحساسية لارتكاب فعلتهم، كانت روسيا خارجة للتو من تجديد كاسح لرئيسها فلاديمير بوتين، على قاعدة برنامج عنوانه الأبرز تحقيق الانتصار في أوكرانيا وعليها، من ثم هزيمة ما تسميه الأدبيات الروسية محاولات الغرب محاصرتها وإذلالها.
تبلورت ملامح عهد بوتين الممدد له عشية الانتخابات الرئاسية وترسخت مع إعلان نتائجها. ومختصر هذا العهد الذي جاءت المجزرة لتبلوره بقوة وسرعة خياليين، يلخص في عنوانين، تعبئة داخلية شاملة حول القائد، لا مكان فيها لمعترض أو منتقد، وحرب مفتوحة ضد العدو الخارجي الذي يتجسد الآن بأوكرانيا، ومن ورائها أوروبا وأميركا.
جريمة المجمع التجاري جاءت لتعزيز هذا النهج المرسوم سلفاً، فـ”العملية الخاصة” ضد أوكرانيا ستصبح “حرباً مفتوحة” والمعترضون في الداخل سيعاملون كـ”خونة”، قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بالشق الأول، وتولى شريك بوتين وتوأمه ديمتري ميدفيديف إعلان الشق الثاني.
من دون جريمة “داعش” كانت معالم الولاية الجديدة للرئيس الروسي قد تحددت.
لم يطرح الرئيس “المستقل” العائد برنامجاً، “توأمه” ميدفيديف تولى المهمة، فقبل ثلاثة أيام من الانتخابات أعلن ما يشبه برنامجاً رئاسياً طموحاً من سبع نقاط تحت عنوان “الصيغة الروسية للسلام في أوكرانيا” جوهره ضم أوكرانيا إلى روسيا!
نقاط ميدفيديف جاءت على النحو التالي:
1- اعتراف ما يسمى أوكرانيا بالهزيمة وإعلان استسلام النازيين الجدد في كييف الكامل وغير المشروط، وتجريد أوكرانيا السابقة من السلاح.
2- اعتراف المجتمع الدولي بالطابع النازي للنظام في كييف واجتثاث النازية من أوكرانيا تحت إشراف الأمم المتحدة.
3- تجريد الأمم المتحدة لأوكرانيا من جميع صفاتها القانونية.
4- حل جميع السلطات الدستورية في أوكرانيا وإجراء انتخابات فورية للبرلمان الموقت في إقليم أوكرانيا الروسي المتمتع بالحكم الذاتي.
5- دفع جميع التعويضات لروسيا بما فيها تعويض أقارب المواطنين الروس ممن سقطوا في العملية العسكرية.
6- اعتراف البرلمان الموقت في أوكرانيا بأن كامل أراضي الإقليم هي أراضٍ روسية واعتماد قانون إعادة توحيد أراضي أوكرانيا السابقة مع روسيا.
7- حل البرلمان الموقت نفسه، واعتراف الأمم المتحدة بإعادة توحيد أراضي روسيا.
في خطاب الفوز كانت روحية المواجهة هي الأبرز، إذ رأى بوتين أن الانتخابات أظهرت “رفض الشعب الروسي قمع إرادته من الخارج” وتوعد الأوكرانيين بمواصلة “مفرمة اللحم”، فهؤلاء “الحثالة” فشلوا في “اختراق حدودنا”، ثم حث مجلس الأمن الروسي على “مواصلة ملاحقة الخونة والاقتصاص منهم فرداً فرداً من دون إسقاط العقوبات عنهم بالتقادم”.
شرحت الصحف الروسية معنى التجديد للرئيس في المنحى نفسه، فتوقعت “موسكوفسكي كومسوموليتس” قرارات صعبة ومعارك قاسية في أوكرانيا “كان يصعب دخولها قبل إعادة انتخاب بوتين”، وهذه المعارك ستبدأ على شاكلة هجوم روسي شامل في مايو (أيار) أو يونيو (حزيران)، و”ستحدد مستقبل روسيا لعقود مقبلة”.
في الجهة الأخرى كان المسؤولون الأوكرانيون يستعدون لمواصلة تصديهم للاجتياح الروسي وقواتهم تخوض معارك يومية دموية ضد الجيش الروسي، وحلفاء أوكرانيا كانوا يبحثون في سبل مواصلة دعمهم لحليفهم في كييف. وفي فرنسا ودول أوروبية أخرى بدأ البحث بإرسال قوات إلى الأرض، وبات النقاش حول دور هذه القوات علنياً وعلى الشاشات.
على رغم التحفظ الذي أبداه بوتين في إطلالته بعد المجزرة، وعلى رغم مسارعة دول العالم، وفي المقدمة أميركا، إلى إدانة الجريمة وإبداء التعاطف مع الشعب الروسي، فإن ميلاً شديداً ظهر لدى عدد من المسؤولين الروس إلى تحميل أوكرانيا مسؤولية الهجوم من دون انتظار نتيجة التحقيق، وعندما دافعت واشنطن عن كييف ورفضت الاتهامات الموجهة إليها، اتهمتها المتحدثة باسم الخارجية الروسية باستباق التحقيق!
لا شك في أنها لحظات حرجة بالنسبة إلى روسيا وأوكرانيا والدول الغربية، فبعضها شبه هجوم المركز التجاري الروسي بهجوم الـ11 من سبتمبر (أيلول) في أميركا، لكن توقيف روسيا للمشاركين في الجريمة يفترض أن يتيح وضع الأمور في نصابها، ومعرفة الحقيقة كاملة أمر مهم لروسيا وللعالم أجمع، وعندما يتحقق ذلك تجدر إعادة النظر في كيفية إيجاد الحلول للأزمة الأوكرانية، بدلاً من تحويلها إلى منصة لحرب عالمية ثالثة.