غزة

محوُ التعليم في غزة

حتاج إلى الضغط بشكل حاسم على الحكومات -وخاصة على تلك التي تُعدّ حليفة دولية لإسرائيل- لتعليق جميع تراخيص التصدير العسكرية لإسرائيل

وقد نشرت هذه الأسبوعية يوم 3 مارس الجاري مقالا بعنوان “الأكاديميون مطالَبون بالمساعدة على وقف ‘محو التعليم’ في غزة”. أما كاتبَا هذا المقال فهما الأستاذان نيف غوردن Neve Gordon ولويس تورنر Lewis Turner المنتسبان لجامعتين بريطانيتين، أولهما إسرائيلي الجنسية كان في الماضي يعمل في الجامعات الإسرائيلية. وقد استخدم هؤلاء مصطلح “educide” الحديث النشأة إذ ظهر لأول مرة عام 2009 عند الحديث عن الدمار الذي لحق بالعراق في مطلع القرن عندما استُهدفت النخبة الجامعية والهيئاتُ العلمية. والمصطلح الجديد جاء على وزن “genocide” (الإبادة) الذي يشير هنا إلى إبادة أو “محو التعليم” في غزة. ونظرا لهوية المجلة والمؤلفين ومضمون هذا المقال ارتأينا ترجمة نصه الكامل أدناه:
“تأسّست جامعة الإسراء في غزة قبل عقدٍ من الزمن، ولم يبق منها الآن سوى صفحات على موقعها الإلكتروني. وقبل أن تُقصف في بداية هذا العام، كانت الجامعة تضم هيئة تدريسية تشمل 350 مدرّس وأكثر من 4 آلاف طالب يدرسون الهندسة والقانون والمحاسبة والعلوم الإنسانية والطبية. وجاء في لائحة رؤية ورسالة الجامعة أن هدفها هو ‘المساهمة في تنمية المجتمع الفلسطيني من خلال تشجيع البحث العلمي وتقديم برامج أكاديمية ذات جودة عالية’.

في 17 جانفي 2024 أظهرت العديد من وسائل الإعلام التلفزيونية لقطات تُظهر هدم جامعة الإسراء، ونشرها الجنود الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. وقام أحد الضباط بتغريد مقطع الهدم مع ملاحظة مفادها أن ‘اتحاد الطلاب بجامعة الإسراء في خان يونس يودّ الاعتذار عن أن دراسات الإرهاب والنازية الحديثة لن تتواصل بسبب تدمير الجامعة”.
ولم يكن هدمُ جامعة الإسراء مفاجئا. فقد تعرّضت الجامعة الإسلامية والكلية الجامعية للعلوم التطبيقية للقصف في 11 و19 أكتوبر 2023 على التوالي. وفي 4 نوفمبر الماضي، قصفت القواتُ الإسرائيلية جامعة الأزهر، ثاني أكبر الجامعات في غزة، وأعقب ذلك تدمير جامعة القدس في 15 نوفمبر. كما قصفت القوات الإسرائيلية كلية الطب في الجامعة الإسلامية يوم 10 ديسمبر، في حين تعرضت جامعة الأقصى وكلية فلسطين التقنية لأضرار جسيمة.

تدمير البنية التحتية الفكرية

بالإضافة إلى المئات من طلبة الجامعات، قتلت إسرائيل نحو 100 أكاديمي، بما في ذلك العديد من العلماء والعمداء ورؤساء الجامعات الذين يحظون بمكانة دولية، مما يُعدّ ضربة قاسية ليس فحسب للبنية التحتية المادية للتعليم العالي في قطاع غزة، بل أيضًا لبنيتها التحتية الفكرية؛ فمن خلال استهداف كافة الجامعات في قطاع غزة، تكون إسرائيل قد قضت فعليًّا على مجالات اختصاص دراسية كاملة، لن ترى النور في المستقبل المنظور. وذلك في الوقت الذي نجد السكان الفلسطينيين بغزّة في أمسِّ الحاجة إلى هذه الاختصاصات. ومن ثمّ ندرك أن الأمر سوف يستغرق سنوات عديدة لإعادة بناء المسارات الجامعية في العمل الاجتماعي والعلاج الطبيعي والعلاج الطبي الحديث، وأيضا في الهندسة والفيزياء والكيمياء والأحياء والأدب والقانون والتاريخ.

إن استهداف التعليم العالي لا يمثّل سوى مظهر من مظاهر التدمير الإسرائيلي الشامل لنظام التعليم في غزة، والذي كان يقصده أكثر من 625 ألف تلميذ وطالب، فضلا عن تشغيل نحو 23 ألف معلّم وأستاذ جامعي. ومن خلال البيانات التي جُمعت قبل شهر، اغتالت إسرائيل 4327 طالب و231 مدرّس وموظف إداري، وأصابت بجروح 8109 طلبة و756 مدرِّس. أما خلال الأسابيع الستة عشر الأولى من الحرب، فدمّرت إسرائيل 345 مدرسة -أو ألحقت بها أضرارا- من أصل 737 مؤسسة في غزة. وفي الوقت الذي نكتب فيه هذا المقال فإن نحو 30% من المباني المدرسية ستكون خارج الخدمة حتى بعد تنفيذ وقف إطلاق النار. ونتيجة لذلك، فإن مئات الآلاف من أطفال المدارس، الذين حُرموا بالفعل من التعليم لعدة أشهر، لن تكون لديهم مدرسةٌ يعودون إليها عندما تهدأ هجمات القوات الإسرائيلية.
إن التدمير الشامل للمؤسسات التعليمية، واعتداء إسرائيل على مكوِّنات التعليم العالي، يمثلان معاً شكلاً من أشكال “محو التعليم” (educide)، والذي يمكن فهمُه -وفقاً لمصطلحات اتفاقية الإبادة (genocide)- على أنه تدميرٌ كامل أو جزئي لنظام التعليم.

إستراتيجية استهداف ضرب مقومات التنمية

لقد استهدفت إسرائيل من قبل البنية التحتية الفكرية للمجتمع الفلسطيني كجزء من إستراتيجيتها طويلة المدى لضرب مقومات التنمية، لكنها الآن تقوم بذلك على نطاق أعمق وأوسع بكثير: ‘إنها عملية تقوّض أو تضعِف قدرة الاقتصاد [والمجتمع] على النمو والتوسُّع من خلال منعه من الوصول إلى المدخلات الحيوية الضرورية لتعزيز النمو الداخلي بما يتجاوز مستوى هيكليا معينا’. وبعبارة أخرى، فإن هذه الهجمات على الفلسطينيين تؤدي، حسب مصطلح الأستاذ جاسبير بوارJasbir Puar، إلى بتر وتشويه المجتمع الفلسطيني بشكل منهجي.

إنه لمن المخزي –وهذا في تناقض صارخ مع ردّ فعل قطاع الجامعات عند الغزو الروسي لأوكرانيا- ألا يكون هناك سوى عدد قليل جدًّا من بيانات الإدانة، ومن الدعوات لوقف إطلاق النار [في غزة]، وكذا من الوعود بتقديم المِنح الدراسية للطلبة والموظفين الفلسطينيين. كما أننا لم نشهد إقامة شراكات بحثية مع الأكاديميين الفلسطينيين وجامعاتهم، وهذا في الوقت الذي تُستهدف فيه المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية بشكل متعمد ومنهجي لتدميرها، دون مبالاة بتعليق دراسة أكثر من 90 ألف طالب جامعي في غزة تعليقا كاملا.

يتعيّن علينا أن نغيّر بسرعة المقاربات التي تنتهجها جامعاتنا وأن نتحدّى صمتها.

المعايير المزدوجة

يجب للسلك الجامعي فضحُ المعايير المزدوجة تجاه الفلسطينيين ومطالبة إداراتهم بتخصيص المنح الدراسية والزمالات للفلسطينيين من غزة. كما ينبغي لهم دعوة الجامعات أيضًا إلى إعادة النظر في الشراكات مع الجامعات الإسرائيلية -التي ثبُت أنها متواطئة مع عملية إخضاع الفلسطينيين لإسرائيل- وكذلك الشراكات والتعاون في الأبحاث مع شركاء من القطاعين العامّ والخاص إذا ما ثبُت وجود تواطؤ مماثل.

ومن جهة أخرى، يجب علينا أن نطالب أصحاب الهِبات الجامعية وصناديق المعاشات لدينا بالتوقُّف عن التعامل مع الشركات المتواطئة في الهجمات على الفلسطينيين. كما يتعيّن على الجمعيات المهنية، التي كان الكثير منها صامتا، مثل الجامعات، أن تضع حدا لصمتها. نحن بحاجة إلى نقابات مهنية تتخذ المواقف العلنية ضد اغتيالات زملائنا في فلسطين، وضد تدمير التعليم فيها. وفي الوقت نفسه، يمكن للنقابات المهنية تنشيط لجانها المعنية بالحرية الأكاديمية لتؤدي دورا ما أحوجنا إليه في الدفاع عن أولئك الطلبة والموظفين الذين تم استهدافهم بسبب تنديدهم العلني بالفظائع في فلسطين.

وأخيرا، نحتاج إلى الضغط بشكل حاسم على الحكومات -وخاصة على تلك التي تُعدّ حليفة دولية لإسرائيل- لتعليق جميع تراخيص التصدير العسكرية لإسرائيل، وذلك لضمان وصول التموين الحيوي المنقذ لحياة الفلسطينيين -مثل منظمة الأونروا- وأيضا للتوصل إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار. فبصفتنا أكاديميين، لدينا التزام بالمساعدة على وضع حدّ لمحو التعليم في غزة.”

أبو بكر خالد سعد الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى